الاقتصاد العربي
أخر الأخبار

صفقات رقائق ضخمة للخليج وبصمة أمريكية لـ “مراقبة وتوجيه” التكنولوجيا المستخدمة

الاقتصاد العربي | بقش

في تحول استراتيجي لافت، أعادت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” توجيه بوصلة سياساتها المتعلقة بتصدير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فاتحة الأبواب أمام دول خليجية ذات ثقل اقتصادي، كالسعودية والإمارات، للحصول على أحدث الرقائق الإلكترونية من عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين مثل “إنفيديا” و”أدفانسد مايكرو ديفايسز”.

هذه الخطوة، التي تأتي ضمن رؤية أوسع لإبرام اتفاقيات تكنولوجية فردية، لا تقتصر على تعزيز المصالح التجارية الأمريكية فحسب، بل تهدف بشكل أساسي إلى ضمان قدرة الولايات المتحدة على متابعة وتوجيه البنى التحتية للذكاء الاصطناعي التي تعتمد على منتجاتها في الخارج.

كانت القيود الأمريكية السابقة على تصدير التكنولوجيا المتقدمة، والتي فُرضت في عهد الإدارة السابقة، تهدف إلى منع الانتشار الواسع للتقنيات الأمريكية الحساسة، خاصة تلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وذلك تحت مظلة اعتبارات الأمن القومي، وبشكل أخص، الحيلولة دون وصول هذه القدرات المتقدمة إلى الصين.

إلا أن إدارة ترامب، وفي قرار أعلنته وزارة التجارة في 13 مايو الجاري، قررت إلغاء ما يُعرف بقاعدة “نشر الذكاء الاصطناعي” التي وضعها الرئيس السابق جو بايدن، والتي كانت ستدخل حيز التنفيذ في منتصف مايو، وبدلاً من ذلك، تعمل الإدارة الحالية على صياغة مقاربة جديدة قد تتمثل في اتفاقيات ثنائية مصممة خصيصاً لكل دولة، وفقاً لمصادر مطلعة لشبكة بلومبيرغ.

وبينما تُسهل واشنطن وصول حلفائها إلى تقنياتها، أصدرت وزارة التجارة تحذيرات شديدة اللهجة، مؤكدة أن استخدام رقائق الذكاء الاصطناعي من نوع “أسيند” التي تنتجها شركة “هواوي تكنولوجيز” الصينية “في أي مكان في العالم” يُعد انتهاكاً لضوابط التصدير الأمريكية.

كما حذرت الإدارة من مغبة استخدام “رقائق الذكاء الاصطناعي الأمريكية في تدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية”، مما يرسم خطوطاً حمراء واضحة في هذه المنافسة التكنولوجية المحتدمة.

بصمة واشنطن: استراتيجية النفوذ عبر التكنولوجيا

يكمن جوهر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إدراك عميق لأهمية السيطرة التكنولوجية في العصر الرقمي، فمن خلال تشجيع اعتماد الدول الأخرى على المكونات والبرمجيات الأمريكية في بناء بنيتها التحتية للذكاء الاصطناعي، تضمن الولايات المتحدة لنفسها نافذة لمتابعة تطور هذه القدرات عن كثب.

هذا “الاطلاع” لا يعني فقط التجسس المباشر، بل يتيح فهماً أعمق لمدى التقدم التكنولوجي لدى تلك الدول، وأنماط استخدامها للذكاء الاصطناعي، ونقاط قوتها وضعفها المحتملة.

علاوة على ذلك، فإن هذا الاعتماد يمنح واشنطن نفوذاً استراتيجياً طويل الأمد، فالتحكم في توريد الرقائق المتقدمة، وتحديثات البرامج، والتراخيص، وقطع الغيار الأساسية، يمكن أن يُستخدم كورقة ضغط دبلوماسية أو أمنية في المستقبل.

كما يهدف هذا النهج إلى احتواء نفوذ المنافسين، وعلى رأسهم الصين، من خلال إغراق الأسواق العالمية بالبدائل الأمريكية المتفوقة، وبالتالي تقويض جهود بكين لترسيخ معاييرها التكنولوجية الخاصة. إن الحجة الأساسية التي تسوقها واشنطن، وخاصة شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “إنفيديا”، هي أن تقييد الصادرات الأمريكية يفتح الباب أمام المنافسين لملء الفراغ، مما يضر بالإيرادات الأمريكية ويضعف قدرتها على الحفاظ على تفوقها، وفي الوقت ذاته يسمح بتطوير قدرات تكنولوجية خارج المدار الأمريكي.

وفي هذا السياق، ترى الولايات المتحدة أن سماحها لدول مثل السعودية والإمارات ببناء طموحاتها في مجال الذكاء الاصطناعي باستخدام التكنولوجيا الأمريكية يخدم مصالحها بشكل مباشر.

فبدلاً من أن تتجه هذه الدول، بما تملكه من قدرات مالية هائلة، نحو بدائل قد تكون أقل موثوقية أو خاضعة لتأثيرات دول منافسة، فإن ارتباطها بالمنظومة التكنولوجية الأمريكية يجعلها ضمن دائرة التأثير والنفوذ الأمريكي، ويضمن أن تكون هذه القدرات المتنامية متوافقة، إلى حد ما، مع الأجندة الأمريكية الأوسع.

ورغم أن إدارة ترامب لم تعلن رسمياً بعد عن منح إذن تصدير لهذه الشحنات الضخمة، إلا أن مشاركة الرئيس شخصياً في الإعلان عن هذه الصفقات تعكس ضوءاً أخضر مبدئياً.

كما تخطط شركة “غلوبال إيه آي” (Global AI) الأمريكية للتعاون مع “هيوماين” في صفقة يُتوقع أن تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث تستثمر شركة “أمازون” بالتعاون مع “هيوماين” مبلغ 5 مليارات دولار في تأسيس “منطقة للذكاء الاصطناعي” في السعودية، فيما تدخل شركة “سيسكو سيستمز” الأمريكية في شراكات مماثلة مع “هيوماين” وكذلك مع شركة الذكاء الاصطناعي “جي 42” (G42) التي تتخذ من أبوظبي مقراً لها.

وفي الإمارات، تدرس إدارة ترامب اتفاقاً يسمح للدولة الخليجية باستيراد ما يزيد على مليون رقاقة متقدمة من “إنفيديا”. ووفقاً لمصادر مطلعة نقلت عنها وكالة “بلومبيرغ”، سيُسمح للإمارات باستيراد 500 ألف رقاقة متقدمة جداً سنوياً حتى عام 2027، على أن يُخصص خُمس هذه الكمية لشركة “جي 42″، بينما يُمنح الباقي لشركات أمريكية تقوم ببناء مراكز بيانات متطورة في الدولة. إن رقائق “إنفيديا”، وبدرجة أقل رقائق “أدفانسد مايكرو ديفايسز”، تُعتبر حالياً الأفضل عالمياً في معالجة الكميات الهائلة من البيانات وتحويلها إلى برمجيات وخدمات ذكاء اصطناعي متقدمة.

مخاوف وتحديات في أفق “الذكاء الاصطناعي السيادي”

لا يحظى هذا التوسع في وصول السعودية والإمارات إلى التقنيات الأمريكية المتقدمة بالإجماع داخل الولايات المتحدة. فقد أعرب النائب الجمهوري جون مولينار، وهو عضو بارز في لجنة خاصة بالصين في مجلس النواب، عن قلقه إزاء هذه التوجهات، محذراً من العلاقات التي تربط شركة “جي 42” الإماراتية بشركة “هواوي” وشركات صينية أخرى.

وشدد مولينار في منشور على منصة “إكس” على ضرورة “الحصول على ضمانات قبل المضي قدماً في مزيد من الاتفاقيات”.

إن توفير البنية التحتية اللازمة لما يُعرف بـ”الذكاء الاصطناعي السيادي” – وهو مصطلح يشير إلى جهود الحكومات لضمان وجود مراكز بيانات قوية داخل حدودها الوطنية قادرة على تشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتطورة – أصبح يمثل الجبهة التنافسية التالية لشركات التكنولوجيا.

وبالنسبة لمصنعي الرقائق على وجه الخصوص، تُعد هذه فرصة لتقليل الاعتماد على إنفاق عدد محدود من الشركات الأمريكية العملاقة في مجال الحوسبة السحابية، مثل “مايكروسوفت” و”أمازون”، التي تهيمن حالياً على استثمارات مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، بل وتقوم أيضاً بتطوير رقائق خاصة بها قد تنافس منتجات “إنفيديا” و”أدفانسد مايكرو ديفايسز” مستقبلاً.

وتأتي هذه التطورات في وقت تسعى فيه السعودية والإمارات بنشاط لتقليل اعتمادهما التاريخي على صادرات النفط، وتريان في الذكاء الاصطناعي محركاً رئيسياً لتسريع جهود تنويع اقتصاداتهما.

وتتمتع الدولتان بقدرات مالية ضخمة واستعداد للاستثمار السريع، وهو أمر حاسم نظراً للتكاليف الباهظة للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي، حيث يمكن أن تصل تكلفة الرقاقة الواحدة من “إنفيديا” إلى عشرات الآلاف من الدولارات، ويتطلب بناء نظام تنافسي ربط عشرات الآلاف من هذه الرقائق بتقنيات شبكات وتبريد باهظة الثمن، فضلاً عن استهلاك كميات هائلة من الطاقة الكهربائية.

وفي المحصلة، فإن مبادرات الذكاء الاصطناعي هذه تأتي ضمن حزمة أوسع من الصفقات التي أُعلن عنها خلال زيارة الرئيس ترامب إلى المنطقة، والتي تعود بالفائدة على الشركات الأمريكية في قطاعات متنوعة.

فبينما أعلن ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن اتفاقيات بقيمة تريليون دولار، تشير التقديرات إلى أن الرقم الفعلي أقرب إلى 300 مليار دولار، تشمل مبيعات دفاعية بقيمة 142 مليار دولار، وصفقة لشركة “أفيليس” السعودية لشراء طائرات ركاب من “بوينغ” بقيمة 4.8 مليار دولار، بالإضافة إلى موافقة المملكة على ترخيص خدمة “ستارلينك” التابعة لشركة إيلون ماسك في مجالي الطيران والملاحة البحرية، ومبيعات أسلحة أمريكية للإمارات بقيمة تناهز 1.4 مليار دولار. كل ذلك يرسم صورة معقدة لمشهد تتداخل فيه المصالح الاقتصادية بالتطلعات التكنولوجية والأبعاد الاستراتيجية العالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش