تقارير
أخر الأخبار

أزمة مالية غير مسبوقة تضرب الأمم المتحدة.. ومستحقات متأخرة تهدد بوقف برامج حيوية حول العالم

تقارير | بقش

تقترب الأمم المتحدة من واحدة من أصعب مراحلها المالية منذ تأسيسها عام 1945، بعدما كشف الأمين العام أنطونيو غوتيريش أن حجم المستحقات غير المسددة لدى الدول الأعضاء وصل إلى 1.6 مليار دولار مع نهاية 2025، ما يضع المنظمة أمام أزمة سيولة خانقة تهدد قدرتها على تنفيذ مهامها الأساسية. وبرغم التحذيرات المتكررة، لا تزال فجوة التمويل تتسع، بينما تتراجع قدرة الأمم المتحدة على تغطية التزاماتها التشغيلية المتزايدة في ظل أزمات عالمية متلاحقة.

ويأتي هذا الوضع الاستثنائي في وقت تخضع فيه ميزانية المنظمة لخفض جذري، ضمن مبادرة إصلاح واسعة تهدف إلى تبسيط الهياكل وتقليل الإنفاق. لكن التحدي الحقيقي –وفق تحليل بقش– يكمن في التوقيت: إذ يحدث ذلك بالتزامن مع توسع النزاعات الدولية، وتصاعد الضغوط الإنسانية في عشرات الدول، وتزايد الاحتياجات التمويلية للبرامج الإنمائية والإنسانية والسياسية.

وتشير بيانات رسمية تتبَّعها بقش إلى أن 145 دولة فقط من أصل 193 دولة سددت التزاماتها لميزانية عام 2025، وهو رقم يعكس تراجع الالتزام المالي على نحو غير مسبوق. الأخطر أن مساهمين رئيسيين –مثل الولايات المتحدة وروسيا– لم يحولوا حصصهم بعد، ما يزيد الضغوط على السيولة ويجبر الأمانة العامة على تقليص عملياتها التشغيلية.

وتؤكد قراءة بقش أن الأزمة الحالية لا تتعلق فقط بمتأخرات مالية، بل بخلل هيكلي يهدد قدرة المنظمة على العمل، ويطرح أسئلة جادة حول مستقبل التمويل الجماعي في نظام دولي يعاني من توترات سياسية حادة وانقسامات عميقة بين القوى الكبرى.

سيناريوهات تعطل الخدمات الأساسية

وصلت مستحقات عامي 2024 و2025 المتأخرة إلى 1.586 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المنظمة، ويكشف عن اتساع الفجوة بين الالتزامات المالية والقدرة الفعلية على الدفع. ويشير غوتيريش إلى أن المنظمة تعمل الآن “بأقل كثيراً مما تسمح به الميزانية المعتمدة”، وهو ما يعني أن الموارد المتاحة لا تغطي الحد الأدنى من احتياجات التشغيل.

ويعكس هذا التباطؤ في السداد –وفق قراءة بقش– تغيراً أوسع في أولويات عدد من الدول، وسط ظروف اقتصادية ضاغطة، وارتفاع مستويات الدين العام، وتراجع اهتمام بعض الحكومات بآليات العمل الدولي المتعدد. ويُنظر إلى موقف الولايات المتحدة وروسيا، بوصفهما أكبر ممولين متأخرين، كعامل مضاعف للأزمة.

أضف إلى ذلك أن انخفاض نسبة الدول الملتزمة بالدفع في وقتها المحدد يخلق حلقة مفرغة: كلما تأخرت الدول الكبرى، تباطأت بقية الدول، ما يضع المنظمة أمام نقص سيولة حاد مع نهاية كل عام مالي، ويهدد بوقف أو تقليص برامج حساسة مثل البعثات السياسية والمكاتب الإنسانية.

وتشير وثائق اللجنة الخامسة –التي اطلع عليها مرصد بقش– إلى أن العجز النقدي أصبح “هيكلياً”، بمعنى أنه لن يُحل بمجرد سداد دفعة متأخرة، بل يستدعي إعادة صياغة شاملة لآلية تمويل الأمم المتحدة، أو سيبقى الوضع الحالي يتكرر سنوياً بوتيرة أسوأ.

تقشف غير مسبوق وإلغاء آلاف الوظائف

كشفت الأمانة العامة تقديرات جديدة لميزانية عام 2026، تضمن خفضاً حاداً يبلغ 577 مليون دولار، أي 15.1% مقارنة بميزانية 2025. وهذا التخفيض لا يعد تعديلاً تقنياً، بل إعادة تشكيل كاملة لطريقة عمل المنظمة، إذ يشمل إلغاء 2681 وظيفة، تمثل 18.8% من إجمالي موظفي الميزانية العادية.

وتستهدف هذه التخفيضات بشكل أساسي وظائف الدعم والإدارة ومراكز العمل الخلفية، وليس البرامج التنفيذية المباشرة، ما يعكس محاولة للحفاظ على الأنشطة الميدانية الأكثر إلحاحاً. لكن عدداً من الوفود حذر من أن الخفض قد يضر بالقدرة التشغيلية، نظراً لاعتماد البرامج على بنى إدارية أصبحت الآن مهددة بالانكماش.

كما ستخضع البعثات السياسية الخاصة لخفض يفوق 21%، وهو تخفيض كبير بالنظر إلى انتشار هذه البعثات في مناطق نزاع حيوية مثل اليمن وليبيا والسودان والشرق الأوسط. ويعني ذلك عملياً تقليص عدد الموظفين الميدانيين، أو دمج مكاتب، أو تخفيض برامج الرصد والتحقيق.

وهذا الخفض يعكس أزمة ثقة متبادلة: الدول الأعضاء تضغط لخفض الإنفاق، والأمانة العامة تحاول حماية ما يمكن حمايته، بينما يزداد خطر أن تؤدي هذه التخفيضات إلى إضعاف قدرة المنظمة على الاستجابة للأزمات الدولية المتصاعدة.

نقل الوظائف وتقليص المكاتب… هندسة جديدة لعمل المنظمة

تدرس الأمم المتحدة إعادة توزيع واسعة للوظائف حول العالم، بما في ذلك نقل آلاف الوظائف إلى مراكز منخفضة التكلفة. ويشمل ذلك دمج معالجة الرواتب في فريق واحد موزع على ثلاثة مراكز عالمية، وإنشاء مراكز إدارية مشتركة في نيويورك وبانكوك وغيرها.

وقد حققت عمليات نقل سابقة وفورات بلغت 126 مليون دولار منذ عام 2017 حسب مراجعات بقش، مع توقع تخفيض إضافي يبلغ 24.5 مليون دولار سنوياً بحلول 2028. لكن الوفود المشاركة في اللجنة الخامسة أبدت مخاوف من أن الكلفة البشرية لهذه الخطوة ستكون مرتفعة، خصوصاً على موظفي الخدمات العامة وصغار الموظفين.

وتشير وثائق رسمية إلى أن الخطة تتضمن تكاليف انتقال لمرة واحدة تبلغ 5.4 مليون دولار، تشمل إنهاء عقود وإعادة توزيع موظفين. ويخشى بعض الخبراء من أن تؤثر هذه الخطوة على التوازن الجغرافي في توزيع الوظائف، ونسبة تمثيل الدول النامية داخل المنظمة.

ووفق قراءة بقش فإن إعادة الهيكلة الحالية أقل ارتباطاً بالكفاءة، وأكثر استجابة لأزمة مالية ضاغطة. ومع ذلك، فإنها تمثل تحولاً طويل المدى في كيفية إدارة المنظمة لعملياتها، بما يشمل رقمنة أكبر، وتقليص عدد المكاتب المكلفة، وتوجيه الموارد إلى الوظائف الميدانية الأساسية.

دعم سياسي مقابل تحفظات واسعة

عبّرت أغلب الوفود في اللجنة الخامسة عن دعمها لمشروع الميزانية المنقحة، مع الاعتراف بأن الأمم المتحدة تواجه تحدياً مالياً غير مسبوق. لكن عدداً من الوفود أبدى قلقاً من جدول المفاوضات الضيق، ومن تأخر وصول الوثائق الرئيسية، ما قد يؤثر على قدرة الدول على التدقيق وإجراء مراجعات تفصيلية.

كما حذر دبلوماسيون من أن التخفيضات المقترحة تتركز بشكل غير متناسب على فئات الموظفين الأدنى، مما يهدد بضعف في التوازن الجغرافي وتجديد القوى العاملة، ويجعل المنظمة أقل تنوعاً من الناحية المؤسسية. هذا التحذير يعكس مخاوف أوسع من أن تنتهي إجراءات التقشف إلى إضعاف الطبيعة التمثيلية للمنظمة.

وفي الوقت نفسه، شدد عدد من الوفود على ضرورة الحفاظ على برامج التنمية، خصوصاً تلك الموجهة إلى القارة الأفريقية، وسط مؤشرات تفيد بأن هذه البرامج واجهت أقل نسبة من التخفيضات مقارنة بالبرامج الإدارية والدعم التشغيلي.

موقف الدول الأعضاء يعكس معضلة طبقاً لقراءة بقش: الجميع يقرّ بالحاجة إلى إصلاح، لكن أحداً لا يريد أن يتحمل الكلفة السياسية أو الوظيفية لهذه الإصلاحات، ما يجعل مسار التفاوض صعباً ومفتوحاً على تعديلات إضافية.

تكشف أزمة المتأخرات غير المسددة، وتخفيضات الميزانية المقترحة، عن مستقبل مقلق لآلية التمويل الجماعي التي تعتمد عليها الأمم المتحدة. فالعجز المالي لم يعد عارضاً، بل مؤشراً على تغيير في سلوك الدول الأعضاء، وتراجع في الالتزام بالعمل المتعدد الأطراف، ونمو واضح في النزعة الوطنية على حساب المؤسسات الدولية.

ومن منظور اقتصادي–سياسي، يرى مرصد بقش أن استمرار هذا الاتجاه سيضع المنظمة أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما تقليص مهامها تدريجياً، أو البحث عن نموذج تمويل بديل يعيد توزيع الأعباء ويضمن استدامة العمليات الأساسية. فأي خيار غير ذلك يعني تفريغ الأمم المتحدة من قدرتها على التدخل في النزاعات، والوساطة، وتقديم الدعم الإنساني.

ومع انتظار مصادقة الجمعية العامة على الميزانية النهائية، يبدو أن المنظمة تسير نحو عام مالي سيكون اختباراً حقيقياً لقدرتها على البقاء فاعلة في عالم يزداد اضطراباً… وعاجزاً عن الاتفاق على طريقة تمويل المؤسسة الدولية الأهم في عصرنا الحديث.

زر الذهاب إلى الأعلى