الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

أوروبا عند مفترق تاريخي لتقرير المصير.. أوكرانيا والتجارة في مواجهة ترامب

الاقتصاد العالمي | بقش

في لحظة تبدو فيها ملامح النظام الدولي أقل وضوحاً من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، يدخل الاتحاد الأوروبي أسبوعاً بالغ الحساسية، لا بوصفه تكتلاً اقتصادياً فحسب، بل ككيان يسعى إلى إعادة تعريف موقعه ودوره في عالم يتغير بسرعة ويتصاعد فيه منطق القوة على حساب التوافقات والقيم المشتركة.

فالأيام القليلة المقبلة ستضع أوروبا أمام اختبار مزدوج، يتمثل في تمكُّنها من تحمُّل مسؤولية تمويل أوكرانيا في حربها ضد روسيا من دون المظلة الأمريكية، وهل تملك الإرادة السياسية والقدرة العملية لتوقيع أكبر اتفاق تجاري في تاريخها مع أمريكا الجنوبية، في توقيت تتصاعد فيه النزعة الحمائية والعدائية من جانب واشنطن.

أسبوع حاسم لسمعة أوروبا ومكانتها

وفق اطلاع بقش على تقرير لوكالة بلومبيرغ، لا يُنظر إلى هذين الملفين داخل أروقة بروكسل على أنهما تقنيان أو إجرائيان، بل باعتبارهما اختباراً مباشراً لسمعة الاتحاد الأوروبي في لحظة وُصفت بأنها “خطيرة”.

أي إخفاق في أحد المسارين سيمنح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذخيرة إضافية لروايته القائلة إن أوروبا “ضعيفة” وعاجزة عن الفعل المستقل، وهي رواية تجد صدى متزايداً في سياق هجومه الواسع على النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، والذي وفر للقارة الأوروبية مظلة أمنية وسياسية امتدت لنحو 80 عاماً.

تأتي هذه التطورات في وقت حذر فيه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، قبل أسبوع فقط، من أن سيناريوهات الحروب العالمية التي ظُنّ أنها أصبحت من الماضي باتت مرة أخرى احتمالات واقعية. ومع ذلك، يشير مسؤولون أوروبيون إلى أن كثيرين داخل القارة لا يدركون بعد حجم اللحظة وخطورتها.

أوكرانيا: من الاعتماد على واشنطن إلى اختبار الاستقلال الأوروبي

القضية الأولى، وربما الأكثر إلحاحاً، تتعلق بتمويل أوكرانيا، فمع قرار إدارة ترامب قطع المساعدات عن كييف، انتقل العبء عملياً إلى أوروبا، التي تجد نفسها أمام خيارين صعبين، إما التدخل لملء الفراغ المالي والعسكري، أو ترك أوكرانيا تواجه خطر القبول باتفاق سلام غير متكافئ، أو حتى احتمال اجتياحها بالكامل من قبل القوات الروسية.

وزير الخارجية الإستوني، مارغوس تساخنا، لخص الموقف بوضوح حين قال إن أوروبا، إذا أرادت أن تكون لاعباً جيوسياسياً حقيقياً، فعليها أن تقرن كلماتها القوية بأفعال حاسمة، مؤكداً أن مصداقية القارة وأمنها وقيادتها على المحك.

الرهان الأوروبي يتمثل في خطة تعتمد على استخدام المليارات من الأصول الروسية المجمدة داخل دول الاتحاد.

وتقضي الخطة بإقراض أوكرانيا نحو 90 مليار يورو (ما يعادل 106 مليارات دولار) على مدى العامين المقبلين حسب متابعة بقش، بما يتيح لها الاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية وتشغيل جيشها، ولن يُطلب من كييف سداد هذه الأموال إلا في حال قيام روسيا بإصلاح الأضرار التي تسببت بها الحرب.

ودافعت البرتغال عن هذا التوجه، معتبرةً أن استمرار دعم أوكرانيا “أمر لا مفر منه”، وقالت إن المبلغ المطلوب لا يمثل سوى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي. ورغم وصفها الرقم بأنه “كبير”، إلا أنها شددت على أنه لا يزال ممكناً وضرورياً للغاية.

لكن هذه الخطة تصطدم بعقبات سياسية وقانونية جدية داخل الاتحاد نفسه وفق اطلاع بقش. فبلجيكا، التي تستضيف الجزء الأكبر من الأصول الروسية المجمدة، تعارض بشدة هذا المسار خشية أن تُجبر على سداد القرض في حال استعادت روسيا أموالها بحكم قضائي.

أما فرنسا، فرغم عدم اعتراضها المبدئي على استخدام الأصول المجمدة في بلجيكا، فإنها ترفض المساس بالأصول الموجودة في بنوكها.

إلى ذلك، تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً خلف الكواليس على الأوروبيين لعدم استخدام هذه الأموال، بحجة أنها ستكون أكثر فاعلية كورقة تفاوض في أي محادثات سلام مستقبلية مع موسكو.

أموال توشك على النفاد

هذا التعقيد دفع الاتحاد الأوروبي إلى سباق مع الزمن للحفاظ على ما وصفه المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأنه “أقوى ورقة ضغط حالية في يد أوروبا”.

وحسب تتبُّع بقش تصريحات مسؤولين مطلعين على النقاشات، فإن الأموال المتاحة لدى أوكرانيا قد تنفد بحلول شهر أبريل، ما يعني أن أي تأخير إضافي سيضع كييف، ومعها أوروبا، في موقف بالغ الصعوبة.

ومن المقرر أن تبلغ قضية تمويل أوكرانيا ذروتها يوم الخميس، حين يجتمع قادة الاتحاد في بروكسل لمحاولة التوصل إلى حل بشأن القرض المقترح. وفي حال الفشل، سيضطر التكتل إلى البحث عن حلول مؤقتة وإعادة تقييم نهجه، وهو سيناريو يعني المزيد من التأجيل والمزيد من الاجتماعات، ويصب في نهاية المطاف في مصلحة السردية الساخرة التي يروج لها ترمب عن عجز أوروبا.

والاختبار الثاني لا يقل رمزية ولا تعقيداً، فالاتفاق التجاري بين الاتحاد الأوروبي وتكتل “ميركوسور”، الذي يضم الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وباراغواي والأوروغواي، لا يُعد مجرد صفقة اقتصادية، بل أكبر اتفاق تجاري يوقعه الاتحاد في تاريخه، ورسالة سياسية موجهة مباشرة إلى واشنطن.

وتنقل بلومبيرغ أن توقيع الاتفاق في هذا التوقيت سيبعث بإشارة واضحة إلى ترامب، الذي يعمل حالياً على إعادة تأكيد الدور الأمريكي في أمريكا اللاتينية، مدعياً في استراتيجيته الأخيرة للأمن القومي “حق التفوق في نصف الكرة الغربي”.

وإذا نجحت أوروبا في خفض الحواجز التجارية مع أمريكا الجنوبية بعد أيام فقط من ذلك، وفي وقت يلوّح فيه ترامب بفرض رسوم جمركية، فإنها ستثبت أنها قادرة على البقاء لاعباً مؤثراً في المعادلة الدولية.

وقال عضو البرلمان الأوروبي غابرييل ماتو، النائب الإسباني من يمين الوسط الذي قاد العمل البرلماني على الاتفاق، إن اللحظة الراهنة هي الأنسب لإثبات قدرة أوروبا، أمام شركائها في ميركوسور وأمام قطاعها الزراعي في آن واحد، على فتح أبواب التجارة من دون تعريض الإنتاج المحلي للخطر.

فك الارتباط الاقتصادي.. وطريق مليء بالعقبات

يعزز الاتفاق أيضاً حجة الاتحاد الأوروبي بأنه قادر على فك الارتباط الاقتصادي التدريجي مع الولايات المتحدة والصين، عبر تعميق علاقاته مع ديمقراطيات أخرى، وهو أحد المحاور الأساسية في خطة الاتحاد للرد على سياسات ترامب.

غير أن الأجواء لا تبدو مشجعة مع اقتراب موعد التوقيع المبدئي يوم السبت. ففرنسا تضغط بقوة لتأجيل الاتفاق حتى يناير على الأقل، خوفاً من احتجاجات مزارعيها، ويرى بعض الدبلوماسيين أن هذا التأجيل قد يكون محاولة لقتل الاتفاق نهائياً.

ويحذر دبلوماسي أوروبي رفيع من أن عدم توقيع الاتفاق قبل نهاية العام سيُفسَّر عالمياً على أنه دليل على أن أوروبا لا ترغب فعلاً في بناء علاقات أقوى مع أمريكا الجنوبية، ما سينعكس سلباً على الثقة الدولية بالاتحاد.

كل ذلك يجري في ظل تصعيد غير مسبوق في الخطاب الأمريكي تجاه أوروبا. فاستراتيجية الأمن القومي التي ينتهجها ترامب لا تكتفي بتحميل سياسات الاتحاد الأوروبي مسؤولية ما تسميه “الطمس الحضاري” للقارة، بل تذهب أبعد من ذلك بالتشكيك في ما إذا كانت الدول الأوروبية لا تزال تستحق أن تُعتبر حليفاً موثوقاً داخل حلف الناتو، بل وتلمّح إلى احتمال تغذية “المقاومة” داخل أوروبا نفسها.

ووفق قراءة بقش فإن هذه الهجمات تمثل مسماراً إضافياً في نعش التحالف الغربي الذي استمر لعقود، وعبّر المستشار الألماني فريدريش ميرتس عن هذا التحول حين قال الأسبوع الماضي إن ما كان يُعرف بـ”الغرب القيمي” لم يعد موجوداً بالشكل الذي عرفه العالم سابقاً.

في المقابل، يبرز عالم جديد تفرض فيه القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، القواعد وفق منطق القوة والمصالح، لا الشراكات والقيم. وفي هذا السياق يحاول الاتحاد الأوروبي أن يثبت أنه قادر على شق طريقه الخاص كفاعل مستقل لا كمجرد تابع.

القرارات التي ستُتخذ خلال هذا الأسبوع، سواء بشأن أوكرانيا أو اتفاق “ميركوسور”، لن تحدد فقط مآلات هذين الملفين، بل ستحدد هل يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يتحول إلى قوة جيوسياسية حقيقية قادرة على الفعل وتحمل الكلفة، أم أن هذه اللحظة ستكون بداية انحدار ممنهج لدوره العالمي.

زر الذهاب إلى الأعلى