تقارير
أخر الأخبار

إسبانيا تحقق معجزة اقتصادية “هادئة” تعيد تعريف النمو في زمن الأزمات

تقارير | بقش

في وقت تتباطأ فيه اقتصادات أوروبا وتتزايد مخاوف الركود، تظهر إسبانيا كأقرب نموذج مضاد للتيار السائد، وتقدم درساً مفاجئاً في كيفية تحفيز النمو رغم البيئة العالمية الضاغطة. فبينما تعاني اقتصادات كبرى مثل ألمانيا وفرنسا من تباطؤ وتراجع صناعي، وتهتز الحكومات الأوروبية تحت ضغط ارتفاع الأسعار وتراجع الإنتاجية، اختارت مدريد طريقاً مغايراً، وأثبتت أن إدارة اقتصادية ذكية قادرة على تغيير المعادلة.

الربع الثالث من العام كان مفصلياً في تأكيد هذه الصورة. فقد سجل الاقتصاد الإسباني نمواً بنسبة 0.6% على أساس ربع سنوي وفق اطلاع مرصد “بقش” على أحدث البيانات، متجاوزاً متوسط منطقة اليورو الذي لم يتخط 0.2%.

هذا الأداء المتقدم ليس حالة عابرة، بل استمرار لمسار بدأ منذ سنوات، ويدعمه صندوق النقد الدولي الذي صنف إسبانيا كأسرع اقتصاد متقدم نمواً.

وبينما يتوقع صندوق النقد أن يحقق الاتحاد الأوروبي نمواً لا يتجاوز 1.2% في 2025، تُرجح توقعات مدريد الوصول إلى نمو يبلغ 2.9% العام المقبل، بعد توسع قوي بلغ 3.5% في 2024.

هذه الفجوة الواسعة ليست مجرد أرقام، بل مؤشر على أن أوروبا التي تواجه ترهل الإنتاجية والشيخوخة السكانية وارتفاع تكاليف الطاقة قد تجد في النموذج الإسباني خارطة إنقاذ جديدة.

بالتوازي مع هذا النمو، نجحت مدريد في خفض الدين العام إلى الناتج المحلي بشكل لافت، من 119% في 2020 إلى أقل من 102%، مع توقعات بالنزول إلى ما دون 100% قبل نهاية العقد. وفي قارة يهدد فيها الدين العام الاستقرار المالي، يبدو هذا التحسن إنجازاً يصعب تجاهله.

الهجرة.. ورقة رابحة في معركة النمو السكاني والإنتاجية

في الوقت الذي تتجه فيه دول أوروبية كبرى لتقييد الهجرة وتشديد سياسات الدخول، سارت إسبانيا عكس التيار، وتعاملت مع الهجرة كأداة تنمية لا تهديد. هذه المقاربة فتحت لها باباً لتعويض التراجع الطبيعي في السكان الناتج عن الشيخوخة، خصوصاً مع ارتفاع متوسط الأعمار وتراجع معدلات الولادة في أوروبا.

البيانات تشير إلى أن 8.2 مليون شخص أضيفوا إلى عدد السكان في إسبانيا بين عامي 2000 و2024، أغلبهم عبر الهجرة. ولو لم يحدث ذلك، لظلت الكثافة السكانية ثابتة وربما متراجعة، وهو ما كان سيحد من قدرة الاقتصاد على التوسع ويمد الأيدي العاملة الشابة.

والأهم أن العمالة الوافدة لم تشكل عبئاً على المالية العامة، إذ تمثل فقط 1% من الإنفاق الحكومي، مقابل مساهمة واضحة في الناتج المحلي والضمان الاجتماعي.

جزء كبير من هذه النتائج يعود إلى التركيز على العمالة المهرة وتوجيه الهجرة نحو القطاعات الأكثر احتياجاً، مثل التكنولوجيا والخدمات المتطورة. كما استفادت مدريد من سهولة استقطاب كفاءات تتحدث الإسبانية من أمريكا اللاتينية، الأمر الذي منحها ميزة تنافسية ثقافية ولغوية لا تتوفر لأي دولة أوروبية أخرى تقريباً.

هذه السياسة لم ترفع الإنتاجية وحسب، بل زادت النمو المحتمل للاقتصاد من 1.4% إلى 2% وفق تقديرات بنك إسبانيا التي راجعها بقش. وفي قارة تئن من تباطؤ القدرات الإنتاجية، أصبحت الهجرة المدارة بعناية أحد أسرار القوة الإسبانية.

الطاقة النظيفة.. من الشمس والرياح إلى اقتصاد المستقبل

لم تكتف مدريد بتصحيح المسار الديموغرافي والمالي، بل تجهز أرضية طويلة الأمد لنمو مستدام عبر استثمار مكثف في الطاقة المتجددة. فمع الشمس السخية والرياح القوية، تحولت إسبانيا إلى واحدة من الدول الأوروبية الأكثر تقدماً في إنتاج الكهرباء من مصادر نظيفة.

سياسات الدولة تهدف للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2050، ووفق وكالة الطاقة الدولية، فإن الاستثمار في الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر لا يعزز فقط توليد الطاقة، بل يخلق وظائف ويدعم البحث والتطوير ويجذب رؤوس الأموال العالمية. وتتضح ثمار ذلك في أسعار الكهرباء التي تُعد من الأدنى في أوروبا، ما يمنح الصناعات المحلية ميزة تنافسية.

قطاع السيارات يمثل قصة نجاح إضافية. فبعد إطلاق خطة بقيمة 5 مليارات يورو لجذب صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات، بدأت الشركات العالمية تتجه لإسبانيا، مثل فولكس فاغن من ألمانيا، وشيري وكاتل من الصين.

وتشير تسريبات السوق إلى أن شركة BYD الصينية قد تكون التالية في الطريق وفق اطلاع بقش، ما قد يعزز مكانة مدريد كقاعدة صناعية أوروبية للمركبات الكهربائية.

ورغم الانقطاع الكهربائي الكبير الذي وقع في أبريل الماضي، والذي أظهر الحاجة لتطوير شبكات الطاقة، فإن هذا الحدث لم يكن كافياً لتغيير الحسابات. فصعود الطاقة المتجددة أصبح العنصر الأكثر دينامية في قصة النمو الإسبانية.

تحديات سياسية واجتماعية لا يمكن تجاهلها

على الرغم من هذه النجاحات، تواجه الحكومة الإسبانية تحديات جدية قد تعترض المسار إذا لم تُعالج بشكل دقيق. أسعار العقارات ارتفعت بشكل حاد، ما جعل شريحة واسعة من المواطنين خارج دائرة القدرة على التملك، وخلق حالة من التوتر الاجتماعي. كما أن البطالة رغم تراجعها إلى أدنى مستوياتها منذ 2008، لا تزال تلامس 2.5 مليون شخص وفق قراءة بقش، وهي نسبة مرتفعة بقياس دول متقدمة.

المشهد السياسي بدوره يمر بمرحلة حساسة. فاستطلاعات الرأي تُظهر تقدّم حزب الشعب المحافظ على الحزب الاشتراكي بقيادة بيدرو سانشيز قبل انتخابات 2027، ما يعكس إرهاقاً شعبياً من استمرار الحكومة رغم نتائجها الاقتصادية الجيدة. ملفات الفساد التي تصر الحكومة على نفيها تزيد أيضاً من الضبابية، وتخلق حالة من الاستقطاب المتصاعد.

مع ذلك، يعتبر مراقبون أن التجربة الإسبانية أثبتت أن أوروبا ليست محكومة بالركود، وأن نموذجاً مختلفاً قادر على كسر الحلقة التقليدية بين الشيخوخة وتباطؤ الإنتاجية وارتفاع الدين. في النهاية، التحدي الأكبر أمام مدريد ليس تحقيق النمو، بل إقناع المجتمع بالحفاظ على هذا المسار.

إسبانيا لم تحقق معجزتها الاقتصادية عبر ضربة حظ أو دورة مالية مواتية، بل عبر مزيج من السياسات الجريئة: جذب العمالة الماهرة بدلاً من طردها، الاستثمار في الطاقة النظيفة بدل الوقود الأحفوري، استخدام أموال التعافي بفعالية بدلاً من هدرها، وبناء سوق عمل قادر على خلق قيمة مضافة.

السؤال الآن هل ستقتنع بقية أوروبا بأن الطريق إلى النمو يمر عبر الانفتاح لا الانغلاق، وعبر دعم الاقتصاد المنتج لا الأنظمة المالية فقط، وعبر استقبال المستقبل وليس مقاومته؟ إذا كانت التجربة الإسبانية تحمل رسالة، فهي أن الإصلاح الاقتصادي ممكن، حتى في قارة شاخت مؤسساتها وتباطأت محركاتها.

يبقى أن الزمن سيحدد ما إذا كانت مدريد ستبقى نموذجاً يُحتذى، أم أنها ستتعثر تحت ضغط السياسة قبل أن تُرسخ مكاسبها. لكن المؤكد أن أوروبا بدأت تنظر نحو الجنوب، ليس بحثاً عن الشمس فحسب، بل عن وصفة للنهوض.

زر الذهاب إلى الأعلى