اتفاقية ميناء اللاذقية: صفقة فرنسية تثير توجساً من سباق دولي للسيطرة على اقتصاد سوريا ما بعد الأسد

في خطوة تثير تساؤلات حول مستقبل السيادة الاقتصادية لسوريا في مرحلتها الجديدة، تم التوقيع في قصر الشعب بدمشق على اتفاقية وصفت بـ “الاستراتيجية” بين الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية وشركة الشحن الفرنسية العملاقة “CMA CGM”، تمنح الأخيرة حقوق تطوير وتشغيل ميناء اللاذقية لعقود قادمة.
وقد جرى التوقيع بحضور رئيس الجمهورية الجديد، “أحمد الشرع”، مما يمثل إحدى أولى الصفقات الاقتصادية الكبرى التي تبرمها الحكومة السورية بعد انهيار نظام الأسد، ويفتح الباب أمام مخاوف جدية بشأن بداية سباق دولي للاستحواذ على المفاصل الحيوية للاقتصاد السوري المنهك.
وكانت هيئة المنافذ قد أعلنت في فبراير الماضي عن التوصل لاتفاق مبدئي مع الشركة الفرنسية يتضمن تشغيل محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية، بعد أن تم، بحسب بيان الهيئة، “تصفية الذمم السابقة المترتبة على الطرفين خلال العقد الماضي، وإبرام عقد جديد لتشغيل المحطة وفق شروط وآليات جديدة”.
اللافت للنظر هو أن الحكومة السورية الجديدة قامت بـ “نسف العقد القديم” الذي كانت تفاصيله مختلفة كلياً، والذي يعود إلى عام 2009 حين أسست CMA CGM بالشراكة مع “Terminal Link” الفرنسية و”سوريا القابضة” (لرجل الأعمال طريف الأخرس) شركة لتشغيل المحطة لمدة عشر سنوات فقط.
تفاصيل العقد الجديد: استثمار طويل الأمد
بموجب الاتفاقية الجديدة، التي تمتد لفترة طويلة تصل إلى 30 عاماً، ستتولى شركة CMA CGM، التي تعد من أكبر شركات الشحن والخدمات اللوجستية في العالم ومقرها مرسيليا، مهمة تطوير وتشغيل ميناء اللاذقية باستثمار إجمالي يبلغ 230 مليون يورو. وستقوم الشركة بضخ 30 مليون يورو في السنة الأولى، تليها 200 مليون يورو خلال السنوات الأربع التالية.
يهدف المشروع إلى تحديث البنية التحتية للميناء بشكل كبير، حيث سيتم توسعة رصيف الميناء ليبلغ طوله 1.5 كيلومتر وبعمق يصل إلى 17 مترًا، مما سيسمح باستقبال السفن العملاقة وزيادة قدرة الميناء الاستيعابية للحاويات بشكل كبير. ورغم هذه الاستثمارات، تشير بنود الاتفاق إلى أن “ثمرة العقد” لن تبدأ بالظهور إلا بعد مرور 5 سنوات كاملة من تجهيز البنية التحتية وإعادة تأهيل المرفأ.
مخاوف المرحلة الانتقالية الحساسة
لا يمكن النظر إلى صفقة ميناء اللاذقية بمعزل عن السياق الأوسع لمرحلة ما بعد انهيار نظام الأسد في سوريا. ففي ظل حالة الضعف والهشاشة التي تعاني منها مؤسسات الدولة والاقتصاد المنهار بعد سنوات الحرب الطويلة، يثير منح عقد استراتيجي طويل الأمد لشركة أجنبية، مهما كانت خبرتها، مخاوف جدية من أن تكون هذه مجرد بداية لسباق محموم بين القوى الدولية والإقليمية للاستحواذ على الأصول الاقتصادية الحيوية لسوريا.
فالموانئ، وحقول النفط والغاز، وشبكات النقل، والبنى التحتية الرئيسية، كلها قد تتحول إلى “كعكة” تتسابق القوى الخارجية لتقاسمها، مستغلة حاجة سوريا الماسة لإعادة الإعمار والتمويل، مما قد يرهن مستقبل البلاد وسيادتها الاقتصادية لعقود قادمة.
وتكتسب الموانئ السورية، وعلى رأسها اللاذقية وطرطوس، أهمية استراتيجية بالغة كمداخل رئيسية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وكنقاط حيوية للتجارة ليس فقط لسوريا، بل للمنطقة بأكملها، بما في ذلك العراق والأردن ودول الخليج.
السيطرة الأجنبية على تشغيل وتطوير هذه الموانئ تمنح الشركات والدول التي تقف خلفها نفوذاً كبيراً على حركة التجارة الإقليمية، وقدرة على التحكم في تدفق السلع وفرض شروطها، مما قد يحد من قدرة سوريا المستقبلية على رسم سياساتها التجارية والاقتصادية المستقلة.
هل تعود مشاريع خطوط الأنابيب إلى الواجهة؟
يربط العديد من المحللين بين الاهتمام الدولي المتجدد بالبنى التحتية السورية، خاصة الموانئ وشبكات النقل، وبين المشاريع القديمة-الجديدة لمد خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز من منطقة الخليج العربي عبر الأراضي السورية وصولاً إلى البحر المتوسط لتصديرها إلى أوروبا.
ويُعتقد أن التنافس بين مشروع خط أنابيب تقوده قطر وتركيا ومشروع آخر تدعمه إيران والعراق كان أحد الأسباب الجيوسياسية الكامنة التي أججت الصراع المسلح في سوريا منذ بداياته مطلع العقد الماضي.
فالسيطرة على الموانئ الرئيسية مثل اللاذقية قد يُنظر إليها كخطوة استراتيجية ضرورية لتأمين نقاط تصدير لهذه المشاريع المحتملة، مما يعني أن تأمين العقود الاقتصادية اليوم قد يكون مقدمة لإعادة إحياء نفس الصراعات الجيوسياسية القديمة حول ممرات الطاقة على الأراضي السورية.
وبينما تم الإعلان عن قيمة الاستثمار وبعض التفاصيل الفنية، تظل الشروط الكاملة لعقد الثلاثين عاماً مع CMA CGM غير واضحة للعلن، مما يثير تساؤلات حول مدى شفافية الصفقة وما إذا كانت تراعي المصالح السورية طويلة الأمد بشكل كافٍ.
فالعقود طويلة الأجل من هذا النوع في فترات انتقالية حساسة تحمل دائماً خطر تكريس علاقات تبعية اقتصادية غير متكافئة، خاصة إذا لم تكن الشروط واضحة وتتضمن ضمانات قوية لحقوق الدولة المضيفة في الإشراف والمراقبة والحصول على حصة عادلة من العائدات.
الخشية هي أن تتحول مشاريع إعادة الإعمار إلى أدوات لتعميق النفوذ الأجنبي بدلاً من تحقيق تنمية مستدامة وحقيقية يستفيد منها الشعب السوري.
في النهاية تُمثل اتفاقية تطوير وتشغيل ميناء اللاذقية مع شركة CMA CGM الفرنسية حدثاً اقتصادياً هاماً لسوريا في مرحلتها الجديدة، وقد تحمل وعوداً بتحديث الميناء وتعزيز دوره التجاري. لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل المخاوف المشروعة التي تحيط بهذه الصفقة وأمثالها، والتي تنبع من الخشية بأن تكون مجرد بداية لعملية استغلال دولي لموارد سوريا وموقعها الاستراتيجي في مرحلة ضعفها، وأن تتحول أصول البلاد الحيوية إلى جوائز تتنافس عليها القوى الخارجية، مما قد يعيد إنتاج الصراعات القديمة بأشكال جديدة.