الدوحة تجمع العالم في مواجهة الجوع… والأمم المتحدة: “المشكلة ليست في الطعام بل في العدالة”

الاقتصاد العالمي | بقش
بينما يعيش ملايين البشر حول العالم حالة بحث يومي عن وجبة تسد الرمق، احتضنت العاصمة القطرية الدوحة الاجتماع الرفيع الأول للتحالف العالمي لمكافحة الجوع والفقر، بمشاركة رؤساء دول ووزراء ومسؤولين أمميين وشركاء دوليين.
الحدث يأتي في مرحلة حساسة تتزايد فيها تحذيرات المنظمات الدولية من اتساع رقعة انعدام الأمن الغذائي، مع دخول مناطق واسعة في حلقة متصاعدة من الفقر الغذائي والصدمات المناخية والحروب.
وخلال الجلسة الافتتاحية، شددت رئيسة الجمعية العامة للأمم المتحدة أنالينا بيربوك على أن الجوع في عالم اليوم لا يرتبط بندرة الغذاء، بل بانعدام العدالة وتفاوت الفرص والسياسات التي لا تلبي احتياجات الفئات الأكثر هشاشة.
وأوضحت أن أكثر من 670 مليون شخص عانوا الجوع العام الماضي، بينما يواجه 2.3 مليار شخص مستويات متفاوتة من انعدام الأمن الغذائي، في مفارقة صارخة أمام حقيقة أن العالم يهدر أكثر من مليار وجبة يومياً.
الدوحة لم تكن مجرد مقر لاستضافة النقاشات، بل منصة لعرض مراجعة عميقة لأسباب الجوع، مع تأكيد أن الحلول تتجاوز الإغاثة الطارئة إلى بناء نظم حماية اجتماعية ورفع القدرة على مواجهة الأزمات. وعلى هامش الاجتماع، تستضيف المدينة أيضاً القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية بمشاركة نحو 14 ألف شخص يناقشون التحولات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بمستقبل الأمن الإنساني.
ومع ارتفاع حرارة الأرض وزيادة حدة التغيرات المناخية، أصبح الجوع مرتبطاً بشكل أوثق بتدهور الأراضي الزراعية وتراجع الموارد، ما يجعل التحالف الدولي الجديد بمثابة محاولة لإعادة تشكيل الاستجابة العالمية لواحدة من أكثر الأزمات إلحاحاً في عصرنا.
المناخ يدفع ملايين نحو الجوع
أشارت بيربوك في كلمتها إلى أن التغير المناخي بات أهم دوافع انعدام الأمن الغذائي، مستشهدة بتجربتها الميدانية في منطقة الساحل حيث تحولت الأراضي الزراعية الخصبة إلى مساحات جافة تفتقر إلى القدرة على الإنتاج مع اختلال الفصول واختفاء الأمطار. هذا التغير دفع مجتمعات كاملة إلى الهجرة أو الاعتماد على المساعدات الإنسانية بشكل دائم.
وتحذّر الأمم المتحدة من أن استمرار الاحترار العالمي دون تدخل حاسم قد يؤدي إلى إضافة 1.8 مليار شخص إلى قائمة المعرضين للجوع. في المقابل، فإن الالتزام بخفض الاحترار إلى 1.5 درجة واستثمار أكبر في التكيف المناخي قد يجنّب العالم موجة كبرى من الفقر الغذائي خلال السنوات المقبلة.
رغم قتامة الصورة، أكدت بيربوك أن العالم قادر على تجنب السيناريو الأسوأ إذا توفرت الإرادة الدولية وتم ضخ التمويل المناسب في مشاريع التكيف الزراعي والمائي. وترى الأمم المتحدة أن محاربة الجوع لم تعد قضية إنسانية فحسب، بل مسألة أمن واستقرار عالمي تتطلب تعاوناً أوسع وقرارات سياسية جريئة ومستدامة.
وتأتي هذه الرسائل في وقت تشهد فيه مناطق عدة موجات جفاف وفيضانات متعاقبة، ما تسبب في خسائر واسعة للمزارعين وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وخاصة في الدول النامية ذات القدرة المحدودة على تمويل خطط التكيف المناخي.
تحالف دولي يتوسع وتنفيذ على الطاولة
التحالف العالمي ضد الجوع الذي أطلق لأول مرة عام 2024 تحت رئاسة البرازيل لمجموعة العشرين، يضم اليوم قرابة 200 عضو من دول ومنظمات ووكالات دولية. الاجتماع في الدوحة لم يكن بروتوكولياً، بل بداية لخطة عمل تنفيذية تستهدف تعزيز الحماية الاجتماعية وتوسيع الإنتاج الزراعي القادر على التكيف مع تغير المناخ، إلى جانب بناء نظام إنذار مبكر للأزمات الغذائية.
وتؤكد الأمم المتحدة أن أحد أهم أركان التحالف يتمثل في الانتقال من الوعود السياسية إلى برامج ملموسة تسهم في تحسين سلاسل الإمداد الغذائي وتقليل الفجوات بين الفئات الضعيفة والفئات القادرة. ويأمل قادة التحالف أن يكون هذا الحدث محطة مفصلية نحو تعاون عملي يضم الحكومات والقطاع الخاص والمنظمات الدولية.
الدوحة بدورها لعبت دور منصة استراتيجية لاستعراض تجارب الدول وتبادل الخبرات بشأن كيفية تعزيز الدعم الاجتماعي وإطلاق برامج تمويل موجهة إلى الفئات الأكثر هشاشة. وتبدو الرسالة واضحة: العمل الجماعي ضرورة وليس خياراً، خاصة في ظل تداخل العوامل الاقتصادية المناخية والسياسية التي تعمق الفقر الغذائي حول العالم.
وفي نهاية الجلسة، أكدت بيربوك أن “عالم خالٍ من الجوع ليس هدفاً مثالياً بعيداً، بل هدف قابل للتحقق إذا اجتمع العالم على رؤية مشتركة وإرادة كافية”.
حلول ميدانية من برنامج الأغذية العالمي
في مقابلة مع أخبار الأمم المتحدة، قالت رانيا داغاش كامارا، مساعدة المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، إن البرنامج قدم الدعم لنحو 124 مليون شخص عام 2024، معظمهم في مناطق النزاعات والمجتمعات الهشة. وأوضحت أن موجات الجوع المتصاعدة جعلت الحاجة إلى الدعم الإنساني تتجاوز الحدود التقليدية، حيث يقترب عدد المتضررين حالياً من 300 مليون شخص.
وشددت على أهمية برامج التغذية المدرسية التي يستفيد منها أكثر من 400 مليون طفل حول العالم، باعتبارها خطاً أول للدفاع ضد الجوع وضماناً لاستمرار التعليم، خاصة للفتيات. وأكدت أن هذه البرامج تمثل دعامة رئيسية لمكافحة الفقر الغذائي على المدى الطويل.
إلى جانب الإغاثة، يعمل البرنامج مع أكثر من 63 حكومة لبناء أنظمة حماية اجتماعية مستدامة، بهدف تقليل الاعتماد على المساعدات الطارئة مستقبلاً وتحسين قدرة المجتمعات على مواجهة الصدمات الاقتصادية والمناخية. هذه المقاربة تمثل تحولاً في استراتيجية إدارة الأزمات من الدعم اللحظي إلى بناء القدرة الذاتية.
واختتمت كامارا بالإشارة إلى أن كل فرد وكل مؤسسة لها دور في مواجهة الجوع، مؤكدة أن التضامن العالمي والدعم الحكومي يمثلان حجر الأساس لأي تحول حقيقي في معركة مكافحة الجوع والفقر.
تدهور الأراضي… تهديد صامت للأمن الغذائي
إلى جانب النقاشات في الدوحة، أصدرت منظمة الأغذية والزراعة تقريرها السنوي الذي حذر من أن تدهور الأراضي نتيجة النشاط البشري يؤثر على إنتاج المحاصيل ويهدد الأمن الغذائي العالمي. التقرير أشار إلى أن نحو 1.7 مليار شخص يعيشون في مناطق تراجعت فيها غلة المحاصيل بنسبة 10% على الأقل بسبب ممارسات زراعية غير مستدامة وإزالة الغابات وتآكل التربة.
ويحذر التقرير من أن استمرار التدهور سيضعف قدرة المجتمعات الزراعية على تأمين الغذاء ويدفع المزيد من الأسر إلى الفقر والجوع، في ظل تأثر الأطفال بشكل خاص حيث يعاني 47 مليون طفل دون سن الخامسة من التقزم المرتبط بفقر الغذاء وتدهور التربة الزراعية.
ورغم الصورة القاتمة، يشير التقرير إلى إمكانية عكس جزء من هذا التدهور عبر تطبيق ممارسات زراعية مستدامة تشمل تحسين إدارة التربة والحد من إزالة الغابات واعتماد تقنيات ري حديثة. وتفيد تقديرات الفاو بأن استعادة 10% فقط من الأراضي المتدهورة يمكن أن يوفر غذاءً كافياً لـ154 مليون شخص سنوياً.
المنظمة أكدت أن الحل لا يقتصر على المزارعين، بل يتطلب سياسات حكومية داعمة واستثمارات في الابتكار الزراعي وتطوير بنية تحتية قادرة على حماية التربة وتحسين الإنتاج، ما يجعل إدارة الأراضي أولوية استراتيجية لأمن العالم الغذائي ومستقبل التنمية الريفية.
العالم أمام مفترق طرق
تجمع كل هذه الرسائل في الدوحة وروما على نقطة واحدة: الحلول موجودة، لكن الزمن يتقدم بسرعة. الجوع لم يعد أزمة حصص غذائية عاجلة فحسب، بل قضية بنيوية تتعلق بالعدالة المناخية، وعدالة التوزيع، والحوكمة الجيدة. والتقاعس عن التحرك سيعني أن ملايين البشر سيدفعون ثمن غياب القرار.
صوت القادة في قاعات الدوحة كان موحداً تجاه أهمية العمل المشترك وتنسيق الجهود بين الحكومات والمنظمات والقطاع الخاص، لكن السؤال الحقيقي يبقى في التنفيذ، ومدى القدرة على تحويل الشعارات إلى شبكات حماية وبرامج زراعية مستدامة ومصادر تمويل دائمة لا ترتبط بالأزمات فقط.
وبين التحالف الدولي لمكافحة الجوع، والجهود الأممية لترميم الأراضي المتدهورة، يقف المجتمع الدولي أمام فرصة لإعادة تشكيل مستقبل الأمن الغذائي العالمي. النجاح ممكن، لكن الإرادة السياسية والتمويل المستدام والالتزام الجماعي هي مفاتيح العبور نحو عالم أكثر قدرة على إطعام نفسه.


