السعودية وتحديات سوق الدين: نمو قياسي وسط عراقيل هيكلية تهدد طموحات “رؤية 2030”

الاقتصاد العربي | بقش
في ظل جهود السعودية لتسريع تحولها الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، سجّلت سوق الدين المحلية، وخاصة السندات والصكوك القائمة على الشركات، نمواً كبيراً خلال السنوات الخمس الماضية، وبحسب تقرير صادر عن وكالة “ستاندرد آند بورز غلوبال للتصنيفات الائتمانية”، بلغت قيمة الإصدارات القائمة 37 مليار دولار في الربع الأول من عام 2025، مقارنة بـ15.5 مليار دولار فقط في الفترة ذاتها من عام 2020، ما يعكس تضاعف السوق بأكثر من الضعف خلال فترة قصيرة.
هذا النمو اللافت يأتي نتيجة مباشرة لسلسلة من الإجراءات التنظيمية التي تبنتها الجهات المعنية في المملكة لتطوير السوق المالية وتعزيز جاذبية أدوات الدين. فقد شملت الإصلاحات إصدار نظام الإفلاس وربط السوق المالية المحلية بمراكز الإيداع الدولية، بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية وتوسيع قاعدة المستثمرين وفق متابعات بقش، كما تم تعديل السياسات الضريبية للمُصدرين والمستثمرين على حد سواء، في مسعى لتحفيز إصدارات جديدة وجذب رؤوس أموال جديدة.
وعلى صعيد متصل، تسعى السعودية إلى تعزيز آلية إصدار الأوراق المالية المدعومة بالأصول، إذ أغلقت هيئة السوق المالية في أبريل الماضي باب الملاحظات بشأن مقترحات تعديل القواعد المنظمة للكيانات ذات الأغراض الخاصة. تهدف التعديلات المقترحة إلى تعزيز حوكمة هذه الكيانات وتحسين إجراءاتها التنظيمية، بما يمكنها من لعب دور أكبر في إصدار أدوات الدين وتنفيذ عمليات التوريق، كأداة تمويلية رئيسية للمشاريع الكبرى.
ورغم الزخم التنظيمي والمالي المصاحب لهذا النمو، فإن سوق الدين المحلية لا تزال تواجه عدداً من التحديات البنيوية. ويشير تقرير “ستاندرد آند بورز” إلى أن السوق تعاني من محدودية في التنوع، حيث تهيمن المؤسسات المالية على 65% من إجمالي الإصدارات، بينما تحتل الشركات الحكومية المرتبة الثانية بنسبة 25%. أما الشركات الخاصة غير المالية، فمشاركتها لا تتجاوز 10% من السوق، ما يكشف عن غياب التوازن ويؤكد على حاجة السوق إلى تنويع قاعدة المصدرين لتصبح أكثر حيوية وقدرة على جذب شرائح مختلفة من المستثمرين.
الوكالة حسب قراءة بقش تتوقع أن تستمر الشركات المملوكة للدولة في قيادة الإصدارات، في وقت ستلجأ فيه بعض الشركات الكبرى في القطاع الخاص ذات الجدارة الائتمانية المرتفعة إلى السوق للاستفادة من بيئة التمويل. ومع ذلك، يبقى دخول الشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر صعوبة، لا سيما تلك التي تفتقر إلى تصنيفات ائتمانية قوية، ما يضعف من حيوية السوق ويقيد قدرتها على النمو الذاتي.
من جهة أخرى، لا تزال السيولة في السوق محدودة، رغم تحسنها الطفيف في السنوات الماضية. أما مشاركة المستثمرين الأجانب، فهي لا تزال متواضعة، إذ لا تتعدى نسبتهم 2% من الإصدارات السيادية وغير السيادية، المدرجة منها وغير المدرجة، حتى نهاية الربع الأول من العام الجاري. وهو ما يعكس استمرار الحذر الدولي إزاء سوق الدين السعودية، بالرغم من الجهود التنظيمية والاقتصادية المبذولة.
في هذا السياق، يرى التقرير أن تأسيس قاعدة استثمارية محلية قوية يمكن أن يشكل دفعة حاسمة لتوسيع السوق وتعزيز جاذبيتها. فوجود صناديق محلية تركز على أدوات الدين من شأنه أن يرفع من مستوى السيولة ويشجع مستثمرين خارجيين على الدخول، خاصة في حال توفرت مستويات شفافية أعلى وخفضت درجة المخاطر التنظيمية.
إلى جانب التحديات التقنية والتنظيمية المرتبطة بسوق الدين، تواجه المملكة عراقيل أوسع في تنفيذ مشاريع “رؤية 2030” التي تُعدّ من أكبر المشاريع التنموية في تاريخها الحديث. فبين الطموح إلى تأسيس مدن مستقبلية مثل “نيوم” و”ذا لاين”، وبناء بنية تحتية سياحية وثقافية وعمرانية متكاملة، تبرز عقبات مالية وإدارية تضغط على قدرة الحكومة في تأمين التمويل والاستدامة المالية.
من أبرز هذه التحديات، ارتفاع التكاليف الإجمالية للمشروعات الكبرى، حيث أدت تقلبات أسعار المواد الخام، وتباطؤ سلاسل الإمداد العالمية، إلى تضخم فواتير البناء والتنفيذ.
مشاريع مثل “نيوم” التي تتجاوز استثماراتها 500 مليار دولار، تواجه صعوبات متزايدة في تلبية جداول الإنفاق وفق تقارير بقش، مما يدفع الدولة إلى البحث عن مصادر تمويل إضافية، بما في ذلك الأسواق الدولية.
ورغم ارتفاع أسعار النفط مؤخراً، والذي منح الحكومة فسحة مالية أكبر، إلا أن الاعتماد المفرط على عائدات النفط يبقى نقطة ضعف هيكلية في الاقتصاد السعودي، ومع اتساع فجوة الإنفاق الاستثماري، ارتفعت مستويات الدين العام، مما زاد من أعباء خدمة الدين في الميزانية العامة، وقلّص من المرونة المالية للدولة في دعم مشاريع أخرى أو تمويل عجز الميزانية في حال حدوث تقلبات اقتصادية.
ولا تقف التحديات عند الجوانب المالية، فوفقاً لتقارير بقش تمتد التحديات إلى بيئة الاستثمار نفسها. فرغم الخطوات الإصلاحية الواسعة التي اتخذتها المملكة، مثل تعديل قوانين الشركات وتيسير إجراءات التراخيص، لا تزال المملكة تواجه انتقادات تتعلق بالبيروقراطية، والشفافية، وافتقار بعض الإجراءات القانونية إلى الوضوح والتنفيذ المتكامل، وقد أثّر ذلك على جاذبية بيئة الأعمال، لا سيما في ظل تنافس دول مجاورة مثل الإمارات وقطر على استقطاب الاستثمارات العالمية عبر حوافز أكثر مرونة.
وفي موازاة التحديات المالية والإجرائية، تبرز مسألة الموارد البشرية كعنصر حاسم. فالمشاريع الكبرى، خاصة تلك القائمة على الابتكار والتقنية، تتطلب كفاءات بشرية عالية التأهيل، ورغم الجهود الحكومية في تدريب الشباب وإطلاق برامج ابتعاث موسعة، لا تزال الفجوة كبيرة بين مخرجات النظام التعليمي والمهارات المطلوبة في سوق العمل.
في المحصلة، تبدو المملكة العربية السعودية عازمة على مواصلة مسيرتها الإصلاحية، لكن ترجمة الطموحات إلى واقع ملموس تتطلب معالجة متأنية للمشاكل البنيوية، وتعزيز الثقة لدى المستثمرين المحليين والأجانب، وابتكار حلول تمويلية مرنة ومستدامة. فبين الاندفاع نحو تحقيق “رؤية 2030” والواقع المعقّد للأسواق والاقتصاد، تقف السعودية أمام لحظة حاسمة تتطلب إعادة تقييم دائمة وقرارات استراتيجية أكثر حذراً وتوازناً.