
الاقتصاد العالمي | بقش
حذّرت وكالة الطاقة الدولية من أن سوق النفط العالمية تتجه نحو فائض ضخم في المعروض بحلول عام 2026، هو الأكبر منذ ما قبل جائحة كورونا، في وقت يشهد فيه الطلب العالمي تباطؤاً واضحاً، فيما تسرّع “أوبك+” وتكتلات أخرى وتيرة ضخّ الخام إلى السوق.
وبحسب التقرير الشهري للوكالة الذي اطلع عليه مرصد “بقش”، والصادر اليوم الثلاثاء، فإن الفائض المتوقع قد يبلغ 4 ملايين برميل يومياً، أي ما يعادل نحو 4% من إجمالي الطلب العالمي، وهو تقدير أعلى بكثير من توقعات الشهر الماضي التي بلغت 3.3 ملايين برميل يومياً، ومن متوسط توقعات المؤسسات البحثية الأخرى.
هذا التحول في التوازن بين العرض والطلب يضع صناعة النفط أمام مرحلة معقدة من تراجع الأسعار وتضخم المخزونات، مع استمرار تباطؤ الاقتصاد العالمي، وتزايد الاتجاه نحو الطاقة النظيفة وكهربة النقل، الأمر الذي يقلّص شهية الاستهلاك للوقود الأحفوري بوتيرة متسارعة.
أوبك+ تفتح الصمامات… والإنتاج يقفز بوتيرة أسرع من الطلب
تقرير الوكالة أشار إلى أن دول “أوبك+” –التي تضم منظمة أوبك وروسيا وحلفاءها– بدأت فعلياً في إلغاء جزء من تخفيضات الإنتاج التي كانت قد التزمت بها خلال العامين الماضيين، بوتيرة أسرع مما كان مقرراً.
القرار، الذي جاء نتيجة ضغوط مالية داخلية في بعض الدول المنتجة، أسهم في ضخّ كميات إضافية من الخام في السوق خلال الربع الثالث من هذا العام حسب قراءة بقش، مما زاد من المخاوف بشأن عودة فائض المعروض وتأثيره على الأسعار التي تراجعت إلى ما دون 62 دولاراً لخام برنت للمرة الأولى منذ مايو.
ووفقاً لبيانات الوكالة، ارتفع المعروض العالمي في سبتمبر الماضي بنحو 5.6 ملايين برميل يومياً مقارنة بالفترة نفسها من 2024، ساهمت “أوبك+” منها بـ3.1 ملايين برميل. كما ارتفعت شحنات النفط المنقولة بحراً بمقدار 102 مليون برميل في شهر واحد، في أكبر قفزة منذ أزمة “كوفيد-19”، مدفوعة بزيادة الإنتاج في الشرق الأوسط.
وتؤكد هذه الأرقام أن السوق تسير بخطى ثابتة نحو حالة وفرة مفرطة، إذ لا تقتصر الزيادة على دول التحالف النفطي، بل تشمل أيضاً منتجين من خارج “أوبك+” مثل الولايات المتحدة وكندا والبرازيل وغيانا، وجميعها تتجه لتعزيز صادراتها استجابة لتحسّن البنية التحتية واستقرار الأسعار فوق عتبة الـ60 دولاراً.
الطلب العالمي يتباطأ
في المقابل، خفّضت وكالة الطاقة الدولية تقديراتها لنمو الطلب العالمي على النفط خلال عامي 2025 و2026، مشيرة وفق اطلاع بقش إلى أنه سيقتصر على 700 ألف برميل يومياً في كل عام، وهو معدل أقل بكثير من المتوسط التاريخي البالغ 1.5 إلى 2 مليون برميل.
ويعزو التقرير هذا التباطؤ إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي وتشديد السياسات النقدية وارتفاع أسعار الفائدة، فضلاً عن التوسع المتسارع في اعتماد السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة في قطاع النقل.
الوكالة حذّرت من أن “الاستخدام العالمي للنفط سيبقى ضعيفاً خلال الفترة المتبقية من 2025 وخلال 2026، متأثراً بتراجع الطلب الصناعي واللوجستي”. وأشارت إلى أن هذه التغيرات البنيوية تجعل من الصعب على السوق العودة إلى مرحلة “النمو القوي في الاستهلاك” كما كان قبل الجائحة.
وبينما تتوقع “أوبك” أن يرتفع الطلب بمقدار 1.3 مليون برميل يومياً هذا العام – أي ضعف تقدير وكالة الطاقة تقريباً – فإن الفجوة بين المؤسستين تعكس تبايناً عميقاً في قراءة مستقبل التحول الطاقوي؛ إذ تراهن وكالة الطاقة على تسارع الانتقال نحو الطاقة النظيفة، بينما تراهن “أوبك” على استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري لعقدٍ آخر على الأقل.
الأسعار تتراجع والمخزونات تتضخم
انخفضت أسعار النفط في التعاملات المبكرة لليوم الثلاثاء إلى ما دون 62 دولاراً لبرميل خام برنت، مقارنة بأكثر من 70 دولاراً في بداية الصيف. وتُعد هذه المستويات الأدنى منذ أبريل، حين لامس البرميل 58 دولاراً قبل أن يعاود الارتفاع لفترة وجيزة.
ويعكس هذا الانخفاض مخاوف المستثمرين من تخمة المعروض وتراجع وتيرة الطلب الصناعي في الاقتصادات الكبرى، خصوصاً الصين التي تشهد تباطؤاً في قطاعي العقارات والتصنيع، والولايات المتحدة التي تعاني من ضغوط تضخمية حدّت من استهلاك الوقود.
التراجع في الأسعار قد يضع موازنات الدول المنتجة تحت ضغط متزايد، لا سيما تلك التي تعتمد على سعر تعادل أعلى من 80 دولاراً للبرميل. كما يُتوقع أن يدفع بعض المنتجين المستقلين في أمريكا اللاتينية وأفريقيا إلى تأجيل مشاريع استكشاف جديدة أو خفض الإنفاق الرأسمالي.
وفي المقابل، يرى محللون أن استمرار انخفاض الأسعار لفترة طويلة قد يؤدي إلى تراجع تدريجي في الإنتاج الأمريكي، ما قد يخفف جزئياً من فائض المعروض بحلول النصف الثاني من 2026، وإن كان ذلك غير كافٍ لتحقيق التوازن الكامل في السوق.
تضارب الرؤى بين أوبك ووكالة الطاقة
بينما تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يبلغ فائض المعروض نحو 4 ملايين برميل يومياً، تشير تقديرات منظمة أوبك التي تابعها بقش إلى أن السوق ستكون “في حالة توازن نسبي”، مع تساوي العرض والطلب تقريباً العام المقبل.
وترى أوبك أن الطلب سيظل قوياً في الاقتصادات الناشئة، وأن التوسع في النقل الجوي والصناعات البتروكيميائية سيعوضان تراجع استهلاك الوقود التقليدي في الغرب.
أما وكالة الطاقة الدولية، فتبني توقعاتها على تحول هيكلي طويل الأمد في أنماط الاستهلاك، مدفوع بالتشريعات المناخية والتحول نحو المركبات الكهربائية. وتعتقد أن دخول مصادر الطاقة المتجددة إلى المشهد بسرعة أكبر من المتوقع سيضغط على الطلب العالمي على النفط قبل عام 2030.
وتُعد هذه الفجوة بين الرؤيتين إشارة إلى حالة من عدم اليقين في مسار السوق، حيث يعتمد التوازن المستقبلي على مزيج معقد من العوامل الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، بدءاً من سياسات الفائدة الأمريكية وحتى تطور تقنيات تخزين الطاقة.
وأشار التقرير إلى أن جزءاً كبيراً من الزيادة في المعروض العالمي جاء من منتجي الشرق الأوسط، ولا سيما السعودية والعراق والإمارات والكويت، الذين رفعوا صادراتهم تماشياً مع خطط “أوبك+” لتخفيف القيود.
وتشير بيانات النقل البحري إلى أن الصادرات القادمة من المنطقة ارتفعت بمعدل أكثر من 100 مليون برميل في سبتمبر وحده حسب قراءة بقش، وهي أكبر زيادة شهرية منذ عام 2020.
هذا التوسع يعكس سعي المنتجين إلى الحفاظ على حصصهم السوقية في ظل التنافس المتزايد مع النفط الأمريكي واللاتيني، لكنه في الوقت ذاته يعزز تراكم المخزونات العالمية ويزيد من صعوبة ضبط الأسعار عند مستويات مربحة.
ويرى محللون أن المنطقة ستظل “المرجع المركزي” في أي محاولات لاحقة لإعادة التوازن، لأن تخفيضات أو زيادات صغيرة من منتجيها الكبار قادرة على قلب معادلات السوق في غضون أسابيع.
نظرة مستقبلية: فائض مستمر وأسعار تحت الضغط
تقول وكالة الطاقة الدولية إن العام المقبل سيشهد تخمة هي الأكبر منذ عام 2016، مع تزايد الإنتاج من داخل وخارج “أوبك+” في وقت يتباطأ فيه النمو الاقتصادي العالمي.
ومع استمرار كهربة وسائل النقل والتحول نحو مصادر الطاقة البديلة، ستواجه صناعة النفط تحدياً بنيوياً طويل الأمد يتمثل في ضعف الطلب مقارنة بالقدرة الإنتاجية المتنامية.
وفي حال تحقق هذا السيناريو، فقد تهبط الأسعار إلى ما دون 55 دولاراً للبرميل لفترات ممتدة، ما لم تتدخل “أوبك+” مجدداً بخفض حاد في الإنتاج. أما إذا حدث انتعاش اقتصادي غير متوقع في الصين أو الهند، فقد يخفف ذلك من حدة الفائض لكنه لن يلغيه.
وفي نهاية المطاف، تبدو السوق النفطية مقبلة على مرحلة إعادة تموضع عميقة، يكون فيها الاستهلاك أبطأ، والإنتاج أكثر تنوعاً، والتحكم في الأسعار أكثر صعوبة، وهي معادلة ستختبر قدرة المنتجين الكبار على التكيّف مع عصر الطاقة المتحوّلة.