الصين تعيد رسم خريطة الابتكار العالمي… من “مصنع العالم” إلى مركز ثقل التكنولوجيا

الاقتصاد العالمي | بقش
تشهد الصين تحولاً تاريخياً يتجاوز إطار النمو الصناعي التقليدي نحو تموضع أكثر تأثيراً في قلب المنافسة التكنولوجية العالمية. وبينما كانت تُنظر إليها لعقود باعتبارها ورشة إنتاج تعتمد على كثافة العمالة، تُظهر المؤشرات الحديثة انتقالها المتسارع نحو منظومة ابتكار متكاملة، مدفوعة بإنفاق ضخم على البحث والتطوير وقدرة عالية على تحويل الأفكار العلمية إلى منتجات تجارية قابلة للتوسع.
في غضون أقل من عامين، تمكن مهندسو فولكس فاغن في الصين من تطوير نظام متقدم للمساعدة على القيادة بوقت يقلّ إلى النصف مقارنة بفترات التطوير التقليدية في ألمانيا. هذا الاختلاف لا يتعلق بالمواهب فقط، بل بسرعة اتخاذ القرار، وكثافة التجارب الميدانية، ومرونة سلسة في ربط الأبحاث بالتصنيع.
المعطيات المالية التي تتبّعها مرصد بقش تكشف بدورها عن تغيير جذري في ميزان القوى: فالصين التي أنفقت عام 2007 نحو 136 مليار دولار على البحث والتطوير، قفزت إلى 781 مليار دولار عام 2023، مقتربة من الولايات المتحدة التي بلغت 823 مليار دولار، وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. هذا التحول لا يعني مجاراتها لواشنطن فقط، بل يضعها على مسار تخطيها خلال سنوات قليلة إذا حافظت على الوتيرة نفسها.
ويأتي هذا الصعود في وقت يشهد فيه النظام الدولي تنافساً تكنولوجياً متزايداً، حيث لم يعد الابتكار خياراً اقتصادياً بل أداة لتحديد المكانة الجيوسياسية للدول. ومع توسع قدرات الصين البحثية والصناعية، تتغير ديناميات السوق العالمية وآفاق الأمن الاقتصادي للدول المتقدمة.
طفرة البحث والتطوير… بكين تقترب من تجاوز واشنطن
شهدت الصين خلال العقدين الماضيين واحدة من أسرع الطفرات البحثية في التاريخ الحديث. فمع زيادة الإنفاق إلى مستويات تقارب الولايات المتحدة، أصبحت البلاد لاعباً رئيسياً في تقنيات المواد المتقدمة، والروبوتات، والبطاريات، والطاقة النظيفة، وشبكات الجيل الخامس.
ويرى خبراء اطلع بقش على تقديراتهم أن هذه الزيادة ليست مجرد أرقام، بل انعكاس لاستراتيجية مركزية تهدف إلى تعزيز “الابتكار الموجّه لخدمة الاقتصاد الحقيقي”، وهو توجه يختلف عن النموذج الأمريكي القائم على الابتكار السوقي المفتوح. ويمنح هذا النموذج الصين قدرة على ربط البحث العلمي مباشرةً بخطط التصنيع، ما يقلل الزمن بين التجربة والتطبيق.
كما دفعت هذه الطفرة شركات عالمية إلى توسيع أنشطة البحث داخل الصين، حيث ارتفع عدد مراكز البحث والتطوير R&D في شنغهاي من 441 إلى 631 مركزاً بين 2018 و2023، وفي بكين من 221 إلى 279 مركزاً، وفق فايننشال تايمز. هذا التوسع يعكس قناعة متزايدة بأن بيئة الابتكار الصينية أصبحت جزءاً من منظومة التطوير العالمية للشركات متعددة الجنسية.
دمج سريع بين المختبر والمصنع ونقطة تفوق صينية
من أبرز ملامح التجربة الصينية قدرتها على دمج الابتكار الصناعي ضمن دورة إنتاج قصيرة وفعّالة. المثال الأبرز يأتي من شركات السيارات مثل فولكس فاغن وسكانيا، التي استطاعت في الصين تطوير تقنيات القيادة الذاتية بوقت قياسي مقارنة بدول أوروبية.
هذه السرعة تعود إلى عوامل عدة: سهولة الحصول على بيانات ضخمة لإجراء الاختبارات، بيئة تنظيمية أقل تعقيداً، وسلسلة توريد محلية قادرة على تعديل الإنتاج وتجربة النماذج بسرعة. وفي قطاع الطاقة النظيفة، تقود الصين الآن مشاريع تفوق نظيراتها الأمريكية بثلاثة أضعاف، ما يسلّط الضوء على إمكانات التوسع السريع في الصناعات الخضراء.
ورغم الانتقادات المتعلقة بجودة بعض الأبحاث أو براءات الاختراع، يشير متخصصون إلى أن القدرة على تحويل الأفكار إلى تطبيقات عملية تعطي الصين أفضلية تنافسية تتجاوز الجدل الأكاديمي حول “نوعية” الابتكار.
شكوك متزايدة… لكن التقدم لا يمكن تجاهله
تاريخياً، وُجهت انتقادات كثيرة للبحث العلمي الصيني، خصوصاً أن 90% من براءات الاختراع المحلية كانت تُعد بلا قيمة تطبيقية بحسب تقديرات محلية. كما أثارت حوادث مثل سقوط سيارة شاومي ذاتية القيادة أسئلة حول معايير السلامة والاختبار.
لكن في المقابل، تُظهر التجربة الميدانية لعدد من الشركات الأجنبية أن ما يحصل في الصين يتجاوز الشكوك التقليدية حسب اطلاع بقش. فشركة سكانيا السويدية طوّرت وظائف قيادة ذاتية خلال عام واحد فقط داخل الصين، بعد سنوات من الإخفاق في أسواق أخرى. وتعتبر هذه الشركات أن سرعة الصين في “تعلم – اختبار – تصنيع” أصبحت جزءاً من جاذبية السوق.
وبهذا، تُصبح معايير الجودة في الصين في مرحلة إعادة تشكل، مع ازدياد الضوابط الحكومية، وظهور جيل جديد من الشركات يعتمد على ابتكار أصيل وليس على نقل التكنولوجيا فقط.
معضلة الغرب أمام التقدم الصيني
تجد الدول الغربية نفسها أمام معادلة دقيقة، فالتعاون مع الصين في الابتكار ضروري للاستفادة من قدراتها التكنولوجية، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام اعتماد اقتصادي أو تقني قد يحمل مخاطر استراتيجية.
تقرير بريطاني–صيني مشترك طالعه بقش أوصى بتوسيع التعاون في المناخ والصحة والزراعة، بينما استبعد مجالات حساسة مثل الروبوتات المتقدمة والأقمار الاصطناعية. وهذا يعكس اتجاه الغرب نحو “تعاون انتقائي” مع بكين، يوازن بين الحاجة الاقتصادية والهواجس الأمنية.
ويشير خبراء إلى أن تجاهل الصين لم يعد خياراً واقعياً، إذ أصبح التقدم الصيني جزءاً من المعادلة العالمية، سواء في سلاسل التوريد أو الطاقة أو التقنيات المتقدمة. وبات على الدول الصناعية إدارة علاقتها مع بكين بدلاً من محاولة تجاوزها.
تقدّم الصين اليوم نموذجاً مختلفاً عن القوى التكنولوجية التقليدية، يجمع بين الإنفاق الضخم، والسرعة التنفيذية، والقدرة على دمج الابتكار في بنية التصنيع. ومع اقتراب بكين من تجاوز الولايات المتحدة في البحث والتطوير، تتجه المنافسة العالمية نحو مرحلة جديدة أكثر تعقيداً.
وتشير قراءة بقش إلى أن السنوات القادمة قد تشهد تحوّلاً في مراكز الثقل التكنولوجي، حيث يصبح الاستثمار في الابتكار جزءاً من معادلة النفوذ الجيوسياسي، لا مجرد محرك للنمو الاقتصادي.
وبينما يتعامل الغرب بحذر مع هذا الصعود، تواصل الصين بناء منظومة متكاملة تقترب من موقع “المنافس الكامل”، في سباق سيحدد طبيعة التكنولوجيا العالمية لعقود مقبلة.


