
الاقتصاد العالمي | بقش
تايوان، الديمقراطية وحقوق الإنسان، النظام السياسي الصيني، حقوق التنمية، جميعها تُعد خطوطاً حمراء بالنسبة للصين، وفي خضم العلاقات المتوترة -التي هدأت نسبياً- بين واشنطن وبكين، وجهت الأخيرة دعوةً صريحة للولايات المتحدة لتجنّب ما وصفته بـ”الخطوط الحمراء” في العلاقة الثنائية، محذّرةً من أن تجاوزها قد يهدد الهدنة التجارية التي وُصفت بأنها “اختراق سياسي مؤقت” أكثر من كونها تحولاً استراتيجياً حقيقياً.
هذا التحذير الصيني يأت بعد عقد الاتفاق الجديد بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والصيني شي جين بينغ خلال لقائهما الأخير في بوسان بكوريا الجنوبية، وهو الاتفاق الذي أعاد بعض الأمل في تخفيف حدة المواجهة الاقتصادية والعسكرية التي ظلت تتصاعد طوال العامين الماضيين.
الخطوط الحمراء الأربعة: رؤية بكين وحدود اللعبة
في خطاب ألقاه السفير الصيني لدى واشنطن شيه فنغ أمام مجلس الأعمال الأمريكي الصيني، حدد بوضوح أربع قضايا تمثل “الخطوط الحمراء” التي لا تقبل الصين النقاش حولها، وهي: تايوان، الديمقراطية وحقوق الإنسان، النظام السياسي الصيني، وحقوق التنمية.
أكد السفير الصيني وفق اطلاع مرصد “بقش” أن أي تجاوز أمريكي لهذه الملفات سيقوّض الثقة بين الجانبين ويهدد مسار التفاهمات الأخيرة، مشدداً على أن “الاحترام المتبادل للمصالح الجوهرية والهواجس الكبرى لكل طرف هو شرط أساسي للاستقرار”.
هذا التصريح يُعبّر عن الموقف الصيني التقليدي الذي يرى أن القضايا السياسية والسيادية يجب أن تُستثنى من أي مساومات اقتصادية أو تفاوضية، في حين تصرّ واشنطن على ربط التجارة بحقوق الإنسان والديمقراطية، خصوصاً في هونغ كونغ وشينجيانغ والتبت.
وطالبت بكين الإدارة الأمريكية بتحويل التفاهمات بين الرئيسين إلى “خطوات ملموسة ونتائج واقعية”، معتبرة أن التنفيذ الجاد هو المعيار الحقيقي لصدق النوايا.
وفي هذا السياق، أشار السفير شيه فنغ إلى أن النزاعات التجارية أو الصناعية أو التكنولوجية “لن تؤدي سوى إلى طريق مسدود” حسب قراءة بقش، في إشارة إلى أن استمرار القيود الأمريكية على الصادرات التقنية المتقدمة إلى الصين سيقوّض أي فرصة لاستقرار العلاقات.
تحفّظ أميركي بشأن رقائق الذكاء الاصطناعي
في المقابل، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن مسؤولين كباراً في إدارة ترامب نصحوه بعدم مناقشة قضية رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة مع الرئيس الصيني، خوفاً من تداعيات أمنية.
أوضح التقرير الذي اطلع عليه بقش أن السماح للصين بالحصول على شريحة “بلاكويل” المتطورة، التي تُعد من أحدث ابتكارات شركة إنفيديا، يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، نظراً لاستخدام هذه التقنيات في تطوير الأنظمة العسكرية والحوسبة الاستراتيجية.
هذا التحفظ يؤكد استمرار نهج واشنطن في تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، وهو ملف ظل يشعل الخلافات منذ عام 2018، عندما بدأت الحرب التجارية بين الجانبين في فترة ترامب الأولى.
تايوان: منطقة حساسة في العلاقات الصينية الأمريكية
رغم أن ملف تايوان لم يُطرح رسمياً خلال لقاء بوسان، إلا أنه ظل حاضراً في خلفية المشهد كأحد أبرز مصادر التوتر.
وتَعتبر بكين الجزيرة “جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الصينية”، وتؤكد أنها لن تتردد في استخدام القوة لاستعادتها إذا لزم الأمر، فيما تواصل واشنطن دعم تايوان عسكرياً وسياسياً.
وقد أعرب وزير الدفاع الأمريكي “بيت هيغسيث” عن قلق بلاده من “الأنشطة البحرية العدوانية” التي تنفذها الصين حول الجزيرة وفي بحر الصين الجنوبي.
واتفق الجانبان، رغم الخلافات، على إنشاء قنوات اتصال عسكرية مباشرة لتفادي أي صدام غير محسوب، وهي خطوة اعتُبرت من القلائل التي نجحت الهدنة في تحقيقها عملياً حتى الآن.
حقوق الإنسان والعجز التجاري: ملفات الخلاف المستمرة
من جهة أخرى، ما زالت قضايا حقوق الإنسان تمثل نقطة تصادم دائمة في العلاقات بين واشنطن وبكين. فالإدارة الأمريكية تواصل انتقاد ممارسات الصين في هونغ كونغ وشينجيانغ والتبت، بينما ترفض بكين بشدة ما تصفه بـ”تسييس القيم الغربية” ومحاولات التدخل في شؤونها الداخلية.
أيضاً، يدور خلاف اقتصادي مزمن حول الاختلال التجاري الكبير بين البلدين. فقد دعا وزير الخزانة الأمريكي “سكوت بيسنت” الصين إلى تحويل اقتصادها نحو الاستهلاك المحلي لتقليل الاعتماد على التصدير وتحقيق توازن تجاري أكثر عدلاً، وهو مطلب تراه بكين تدخلاً في سياساتها التنموية السيادية.
الرقائق وأشباه الموصلات: صراع المستقبل
لا تزال مسألة الوصول إلى أشباه الموصلات الأمريكية المتقدمة نقطة خلاف أساسية. فرغم ما أبداه ترامب من مرونة في مناقشة ملف شركة “إنفيديا”، فإن اللقاء في بوسان لم يُسفر عن حلول ملموسة.
هذا ويصف المستشار الاقتصادي الصيني ديفيد داوكوي لي، وهو مستشار دائم للحكومة وأستاذ في جامعة تسينغهوا، الاتفاق الأخير بأنه “اختراق في العلاقات الثنائية” حسب قراءة بقش تقريراً لوكالة بلومبيرغ، موضحاً أن الصين باتت تُعامل اليوم “كندٍّ للولايات المتحدة”، لا كطرف تابع.
وأضاف أن النخب الصينية تشعر بـ”تفاؤل حذر”، وأن الخلافات الاقتصادية والتجارية “قضايا صغيرة” يمكن معالجتها تدريجياً ما دام الحوار قائماً.
وهذا التفاؤل يعكس رغبة بكين في استثمار الهدنة لتثبيت موقعها كشريك متوازن لا كخصم، ولتأكيد رؤيتها بأن أي استقرار اقتصادي عالمي لا يمكن تحقيقه دون التعاون بين القوتين الأكبر في العالم.
بين السياسة والتكنولوجيا
الهدنة الحالية بين واشنطن وبكين تمثل تقاطعة مؤقتة للمصالح لا مصالحة حقيقية، ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين لتثبيت مبدأ “احترام السيادة أولاً”، تركز الولايات المتحدة على حماية تفوقها التكنولوجي ومنع الصين من الوصول إلى التقنيات التي قد تغير ميزان القوى العالمي.
ورغم الحديث عن قنوات تواصل عسكري واتفاقات تجارية جزئية، إلا أن جوهر الصراع لا يزال قائماً: صراع على القيادة الاقتصادية والتكنولوجية للعالم في القرن الحادي والعشرين.
ومع أن تصريحات الطرفين توحي بالانفراج، إلا أن التجارب السابقة تشير إلى أن أي هدوء مؤقت قابل للاهتزاز عند أول اختبار جديد، خصوصاً في ملفات تايوان والرقائق وحقوق الإنسان، التي تمثل بالفعل خطوطاً حمراء لكل من واشنطن وبكين، ولكن من جهتين متعاكستين.


