الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

الهند وترامب وأسطول الظل: حرب النفط الروسي تدخل مرحلة جديدة

الاقتصاد العالمي | بقش

تتسع دائرة الضغوط الأمريكية على الاقتصاد العالمي مع انتقالها إلى جبهة جديدة: الهند، التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة أكبر مشترٍ للنفط الروسي المخفّض السعر. ففي وقت تحاول واشنطن تضييق الخناق المالي على موسكو، وجّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسائل مباشرة إلى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، معلناً أن نيودلهي تعهدت بوقف وارداتها من النفط الروسي، وهو تصريح لم تؤكده الحكومة الهندية، لكنه فتح الباب أمام أزمة طاقة معقدة جديدة.

الهند التي اشترت 1.9 مليون برميل يومياً من الخام الروسي خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، أي نحو 40% من صادرات موسكو النفطية وفق اطلاع “بقش” على البيانات، تجد نفسها الآن بين مطرقة الضغوط الأمريكية وسندان مصالحها الاستراتيجية.

فالقرار لا يتصل فقط بالعقوبات أو بالموقف من الحرب الأوكرانية، بل يتعلق ببنية الطاقة الهندية بأكملها، وبعلاقاتها التجارية مع شركاء باتوا جزءاً من شبكة متشابكة تشمل روسيا، أوروبا، والصين.

في ظل هذه المعادلة، يبدو أن إدارة ترامب تسعى لإعادة رسم خريطة تجارة الطاقة الدولية تحت شعار “تحجيم العائدات الروسية”، لكن النتيجة قد تكون توسيع سوق الظل للنفط الروسي بدلاً من تقليصها – سوقٌ باتت أكثر غموضاً وتحدياً للرقابة الدولية.

الضغط الأمريكي: رسائل من فوق الطاولة وتلويح بالرسوم

تصريحات ترامب العلنية كانت بمثابة إعلان صريح لسياسة الضغط، حيث قال الرئيس الأمريكي إن مودي أبلغه بأن الهند ستتوقف عن شراء النفط الروسي، محذراً من “رسوم جمركية ضخمة” إذا لم تفعل ذلك.

الهند لم تؤكد هذه المحادثة وفق متابعة بقش، لكن المعنى السياسي واضح: على نيودلهي أن تختار بين العلاقات التجارية مع واشنطن أو الطاقة المخفضة من موسكو. وكانت الولايات المتحدة قد فرضت بالفعل تعريفات جمركية بنسبة 25% على السلع الهندية، نصفها تقريباً كردّ مباشر على استمرار شراء النفط الروسي.

وتؤكد واشنطن أن العائدات الناتجة من هذه المبيعات “تموّل الحرب الروسية في أوكرانيا”، ما يجعل النفط مسألة أمن قومي أمريكي أكثر من كونه ملفاً تجارياً. ورغم نفي وزارة الخارجية الهندية لأي اتصال هاتفي مؤكد، إلا أن الضغوط السياسية مستمرة.

فالهند تعلم أن الأسواق الأمريكية والأوروبية تظل منفذاً حيوياً لصادراتها الصناعية، وأن أي تصعيد جمركي قد ينعكس فوراً على النمو المحلي. لذا، من المرجح أن تُوازن نيودلهي بين الامتثال الجزئي والمناورة الزمنية، بانتظار القمة المقبلة بين ترامب وبوتين.

المعادلة الهندية والحذر الصيني.. بين المكسب والمخاطر

الهند لم تصبح فجأة مركزاً للطاقة الروسية؛ بل هي نتاج تحوّل استراتيجي منذ 2022 حين انسحبت الشركات الأوروبية من سوق النفط الروسي عقب غزو أوكرانيا. توجهت موسكو شرقاً، ووجدت في نيودلهي مشترياً مستعداً ومربحاً. اليوم، أكثر من ثلثي الصادرات الروسية المنقولة بحراً تتجه إلى الهند والصين.

وتعتمد شركات التكرير الهندية على النفط الروسي الرخيص لزيادة هوامش ربحها. شركة “ريلاينس” العملاقة وقّعت صفقة توريد لمدة عشر سنوات مع “روسنفت” لتوريد 500 ألف برميل يومياً حسب قراءة بقش، في حين تملك “روسنفت” الروسية 49% من شركة نايارا الهندية، التي تعتمد مصفاتها في فادينار (400 ألف برميل يومياً) على الخام الروسي بالكامل.

غير أن هذه العلاقة المربحة تواجه الآن تحديات مزدوجة، فالاتحاد الأوروبي سيبدأ في يناير 2026 حظراً على واردات الوقود المكرر من الخام الروسي، ما يهدد ثلث صادرات الهند من الديزل ووقود الطائرات. ومع الرسوم الأمريكية الجديدة، تواجه المصافي خسائر في هوامش الربح كانت تعتمد عليها منذ عامين.

السؤال الذي يفرض نفسه: إذا خفّضت الهند وارداتها، أين ستذهب تلك البراميل الروسية؟
الجواب الأقرب هو الصين، التي استوردت 2.1 مليون برميل يومياً بين يناير وسبتمبر 2025، أي نحو 18% من احتياجاتها النفطية.

لكن بكين، رغم علاقتها القوية بموسكو، تتجنب الاعتماد على مصدر واحد بنسبة تفوق 20% من وارداتها، حفاظاً على التنوع الاستراتيجي. كما تواجه الصين بدورها ضغوطاً من واشنطن في ظل تصاعد التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.

فالإدارة الأمريكية تلوّح بمزيد من القيود التجارية، ما يجعل بكين أكثر حذراً من توسيع استيراد النفط الروسي علناً، حتى وإن كانت الأسعار مغرية. وبذلك، يصبح من غير المرجح أن تعوّض الصين بالكامل أي نقص ناتج عن خفض الهند لمشترياتها، مما يدفع جزءاً كبيراً من النفط الروسي نحو قنوات غير رسمية في السوق الرمادية.

أسطول الظل: الوجه الخفي للنفط الروسي

بينما تشتد القيود، توسّع موسكو ما يُعرف بـ”أسطول الظل”، وهو شبكة من الناقلات القديمة تُستخدم للالتفاف على العقوبات. وفي سبتمبر وحده، نُقلت 69% من صادرات النفط الروسي المنقولة بحراً عبر هذه الناقلات، بحسب مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف.

وتُجري هذه السفن عمليات نقل من سفينة إلى أخرى في عرض البحر لإخفاء المصدر الحقيقي للخام، وغالباً ما يتم تغيير العلم والموقع بشكل متكرر. هذه الشبكة لا تنقل النفط إلى دول مجهولة فقط، بل أحياناً تُعيد تصديره إلى ذات الدول التي تحاول خفضه، بما فيها الهند، بعد أن يُخفى بلد المنشأ في وثائق الشحن.

ورغم أن هذه العمليات تقلّص وضوح سوق الطاقة الدولية، إلا أنها تحافظ فعلياً على تدفق النفط الروسي نحو المشترين العالميين، وتمنح موسكو متنفساً مالياً في مواجهة العقوبات الغربية.
لكن الثمن هو سوق عالمية أكثر ضبابية، وأسعار يصعب تتبعها أو ضبطها سياسياً.

من الناحية الاقتصادية، فإن الضغط الأمريكي والهندي قد يُكبّد موسكو خسائر في الإيرادات نتيجة اضطرارها لبيع النفط بخصومات أكبر، لكن ذلك لا يعني أن الإنتاج سينخفض أو أن صادرات روسيا ستتوقف.

وعلى العكس، ستستمر موسكو في استخدام مسارات بديلة لتسويق نفطها، من آسيا إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، حتى وإن كان ذلك عبر وسطاء وسفن مظلمة.

أما بالنسبة للهند، فإن خفض الواردات سيُربك حسابات شركاتها النفطية ويضغط على ميزان المدفوعات وفق اطلاع بقش على التحليلات الهندية، في وقتٍ يعتمد فيه اقتصادها الصناعي على الطاقة الرخيصة لتأمين تنافسية صادراته. وهكذا، يجد الطرفان نفسيهما أمام معادلة خاسرة: أمريكا تزيد الضغط، روسيا تلتف عليه، والهند تدفع الثمن.

تُظهر أزمة النفط الروسي في عهد ترامب أن الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة جديدة من “الضغوط الذكية”، حيث لا تحتاج واشنطن إلى العقوبات المباشرة بقدر ما تستخدم سياسة الابتزاز التجاري.

النتيجة هي مزيج من القلق والارتباك في أكبر الأسواق الناشئة. الهند، التي سعت إلى تنويع مصادرها، تواجه الآن معضلة الطاقة والسيادة؛ فهي لا تستطيع خسارة موسكو كمصدر مضمون، ولا واشنطن كشريك استراتيجي وتجاري.

أما روسيا، فستواصل بيع النفط حتى لو اضطرّت إلى الغوص أكثر في الظل، بينما يجد العالم نفسه أمام نظام طاقة مزدوج: رسمي فوق الطاولة، وسوق مظلمة تحتها. في النهاية، ما يجري ليس صراعاً حول النفط فحسب، بل إعادة ترسيم خريطة القوة الاقتصادية بعد الحرب الأوكرانية.

ويعيد ترامب خلط الأوراق، وموسكو ترد بالمناورة، والهند توازن على الحافة، أما السوق فتمضي في طريقها، تُغذّيها المصالح وتُعميها العقوبات.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش