انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين في أمريكا وتوقف آلاف الرحلات الجوية.. لماذا يستمر الإغلاق الحكومي الأمريكي؟

تقارير | بقش
بعد مرور 36 يوماً، دخل الإغلاق الحكومي الأمريكي مرحلة غير مسبوقة من التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية، انعكست بوضوح على قطاع الطيران المدني الذي يُعدّ أحد أكثر القطاعات حساسية في البنية التحتية الأمريكية.
فمنذ دخول الإغلاق أسبوعه الثالث وتوقف صرف رواتب عشرات الآلاف من الموظفين، بدأت المطارات الأمريكية تشهد فوضى غير معهودة، تمثلت في تأخيرات وإلغاءات آلاف الرحلات الجوية اليومية، الأمر الذي وضع منظومة النقل الجوي في اختبار صعب كشف هشاشة التوازن بين السياسة والأمن الاقتصادي والاجتماعي.
ووفق بيانات اطلع عليها “بقش” من موقع FlightAware، تم تأخير أكثر من 5000 رحلة جوية في يوم واحد فقط (الأحد 2 نوفمبر 2025)، بينما تم إلغاء مئات الرحلات الأخرى في كبرى المطارات الأمريكية مثل شيكاغو أوهير وجون كينيدي ونيوارك ليبرتي وهارتسفيلد جاكسون في أتلانتا.
وتؤكد وزارة النقل الأمريكية أن 84% من دقائق التأخير كانت نتيجة مباشرة لنقص الموظفين، خصوصاً في أقسام المراقبة الجوية وأمن النقل. وقد تسببت هذه الأزمة في طوابير طويلة من المسافرين في أغلب المطارات، وتحولت عطلات نهاية الأسبوع إلى مشاهد فوضى وسخط شعبي واسع.
إدارة أمن النقل (TSA) أعلنت أنها فحصت نحو 2.7 مليون مسافر في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وهو رقم مرتفع في ظل تناقص عدد العاملين، ما أدى إلى اختناقات شديدة في الممرات الأمنية وأبواب الصعود إلى الطائرات.
وتُعتبر أزمة المراقبين الجويين جوهر الإشكال الحالي. فمع استمرار الإغلاق، لم يتقاضَ المراقبون رواتبهم منذ أسابيع رغم استمرارهم في العمل، إذ يُعتبرون من “العاملين الأساسيين” الذين لا يُسمح لهم بالتوقف عن أداء مهامهم.
لكن الوزير شون دافي (وزير النقل) أشار إلى أن “كثيرين بدأوا يتغيبون بسبب الأوضاع المالية الصعبة”، محذراً من أن فقدان شيكين متتاليين من الرواتب “قد يدفع البعض إلى ترك العمل بالكامل”، وهو ما ينذر بكارثة في نظام المراقبة الجوية.
وتقدّر وزارة النقل النقص الحالي بما بين 2000 إلى 3000 مراقب جوي، وهو رقم خطير في منظومة تعتمد على الكثافة التشغيلية والدقة العالية.
وفي حالات عديدة، اضطر بعض المراقبين إلى النوم في سياراتهم قرب المطارات لتجنّب التأخير في نوبات العمل، وفق اطلاع بقش على وكالة أسوشيتد برس.
انقطاع الرواتب: خطر على سلامة المجال الجوي
في تطور لافت، لوّح وزير النقل الأميركي شون دافي بإمكانية إغلاق المجال الجوي المدني بالكامل إذا تدهورت الأوضاع الأمنية والفنية، مؤكداً في تصريحات لشبكة CNBC أن “السلامة تأتي أولاً، وإذا شعرنا بأن الوضع لم يعد آمناً، سنغلق نظام الطيران المدني الأمريكي بالكامل”.
ورغم أن الوزير استدرك بأن الولايات المتحدة “لم تصل إلى هذه المرحلة بعد”، فإن مجرد التلويح بهذا الخيار أثار ذعراً واسعاً في أوساط شركات الطيران والمطارات، التي وصفت الموقف بأنه “الأكثر خطورة منذ جائحة كورونا”.
نقابة المراقبين الجويين بدورها وجهت نداءً عاجلاً للإدارة الأمريكية، حذّرت فيه من أن “نقص الكوادر وتزايد ساعات العمل الإضافي يرفعان احتمال وقوع الحوادث بشكل خطير”.
كما أشارت إلى أن الضغط المتزايد على المراقبين قد ينعكس مباشرة على جودة التواصل مع الطيارين وسرعة اتخاذ القرارات في الحالات الطارئة.
خسائر اقتصادية
تُقدّر خسائر شركات الطيران الأميركية بملايين الدولارات يومياً. وحسب تقرير بلومبيرغ الذي طالعه بقش، فإن شركتي أمريكان إيرلاينز ويونايتد إيرلاينز ألغتا أكثر من 6000 رحلة خلال أسبوع واحد فقط، فيما أعلنت دلتا إيرلاينز أنها تخسر نحو 15 مليون دولار يومياً نتيجة اضطرابات التشغيل وتعويضات الركاب.
ويرى الخبير الاقتصادي جيسون فورمان، المستشار السابق في إدارة أوباما، أن “قطاع النقل الجوي يضخ أكثر من 1.5 مليار دولار يومياً في الاقتصاد الأمريكي، وأي توقف طويل الأمد سيؤدي إلى تراجع ملموس في الناتج المحلي الإجمالي للربع الأخير من العام”.
وفي الوقت الذي دافعت فيه الإدارة الأمريكية عن موقفها، زاعمةً أن “الأمن والسلامة لن يتأثرا”، يرى محللون أن الشلل الحكومي بدأ يتخذ طابعاً مؤسسياً خطيراً يهدد بإرباك قطاعات حيوية أخرى، وعلى رأسها النقل، والخدمات، والدفاع المدني.
تبادل الاتهامات بين البيت الأبيض والديمقراطيين حول من يتحمل مسؤولية الإغلاق زاد من تعقيد الأزمة.
فقد اتهمت الإدارة الأمريكية المعارضة بأنها “تستخدم الإغلاق كورقة سياسية على حساب المواطنين”، بينما رأى الديمقراطيون أن الحكومة الحالية “تغامر بأمن الملاحة الجوية لتحقيق مكاسب سياسية”.
في المقابل، يتزايد القلق الشعبي مع تداول صور وفيديوهات لمطارات مكتظة وركاب غاضبين، ما جعل الرأي العام الأمريكي ينظر إلى الأزمة بوصفها مثالاً صارخاً على فشل النخبة السياسية في حماية المصلحة العامة.
ويدعم الجمهوريون تخفيض الضرائب والإنفاق الحكومي للحد من العجز المالي، بينما يطالب الديمقراطيون بزيادة الإنفاق على البرامج الاجتماعية مثل التعليم والرعاية الصحية، بينما طالب ترامب الديمقراطيين بإنهاء الإغلاق الحكومي وقال إنهم قادرون على إنهائه متى ما أرادوا.
شلل كامل مقبل
ويرى الخبراء أن استمرار الإغلاق لأسابيع إضافية قد يؤدي إلى شلل كامل في حركة الطيران المدني، خصوصاً مع اقتراب موسم عطلات نهاية العام الذي يشهد عادةً ذروة الحركة الجوية.
وتخشى شركات الطيران من أن تتحول الأزمة من أزمة تشغيلية مؤقتة إلى أزمة ثقة طويلة الأمد بين المسافرين وشركات النقل الجوي.
كما يُتوقع أن يؤدي نقص التمويل إلى تعطيل برامج تحديث أنظمة المراقبة الجوية في إدارة الطيران الفيدرالية (FAA)، وهو ما سيترك آثاراً طويلة المدى على كفاءة وسلامة القطاع.
وتمثل أزمة قطاع الطيران نموذجاً لتحول الخلافات السياسية إلى تهديد مباشر للبنى التحتية الوطنية. فحين تتوقف رواتب المراقبين الجويين، وتتكدس الطائرات على المدارج، ويُلوّح وزير النقل بإغلاق السماء، تصبح المسألة أبعد من مجرد نزاع حزبي، وتتحول إلى أزمة ثقة في قدرة الدولة الأمريكية على حماية مواطنيها وضمان استمرارية مؤسساتها الحيوية.


