منوعات
أخر الأخبار

بتكوين تهز الأسواق بعد تبخر 600 مليار دولار… عملة لا تصعد رغم أقوى موجات الدعم المؤسسي

منوعات | بقش

لم تكن أسواق العملات المشفرة تتوقع أن تدخل “بتكوين” في واحدة من أسرع موجات التراجع هذا العام، خاصة بعد أن وصلت في أكتوبر إلى مستوى تاريخي فوق 126 ألف دولار، وسط ثقة عارمة بأن الفترة القادمة ستكون مرحلة تثبيت حضورها داخل النظام المالي التقليدي.

لكن ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة قلب الصورة تماماً؛ إذ انهارت العملة بشدة، قبل أن تستعيد حدّاً أدنى من الاستقرار، في مشهد كشف عن هشاشة الثقة وعمق القلق في “وول ستريت”.

المفارقة أن كل الظروف التي عادةً ما تُعدّ محركات للارتفاع كانت متوافرة: تدفقات مؤسسية كبيرة، دعم سياسي غير مسبوق في واشنطن، وإدراج متسارع للصناديق المتداولة الخاصة بالأصول الرقمية.

ورغم ذلك، اتجهت السوق إلى موجة بيع واسعة، التهمت معها نحو 600 مليار دولار من القيمة السوقية، في ضربة أعادت الجدل حول مدى قدرة “بتكوين” على البقاء كأصل صاعد بشكل دائم.

ومع تزايد حالة الارتباك، عاد المستثمرون إلى فحص النظريات القديمة، وحاولوا تفسير ما يجري عبر دورات العرض، والسيولة، ودورة “التنصيف” الشهيرة، لكن السوق بدت وكأنها تقاوم كل التفسيرات في لحظة يتراجع فيها الإقبال على المخاطرة عالمياً.

ضبابية كاملة… المتعاملون في حيرة وارتباك

في غياب أي إطار واضح لسلوك “بتكوين”، لجأ المتداولون إلى “الحنين التحليلي”، فارتفعت مجدداً وتيرة الحديث عن دورة التنصيف التي تُقلّص المعروض كل أربع سنوات، والتي ارتبط تاريخياً بصعودات كبيرة تليها تصحيحات مؤلمة. لكن دخول المؤسسات الكبرى إلى السوق قلب كثيراً من المعادلات القديمة، فلم يعد واضحاً ما إذا كانت النظريات السابقة قادرة على تفسير التقلبات الحالية.

حدث التنصيف في أبريل 2024، وبلغت “بتكوين” قمتها بعد ستة أشهر، وهو إيقاع يشبه الدورات السابقة، لكن هذا التماثل لم يتحول إلى استقرار. التراجع الأخير كان أسرع مما توقعته الصناديق نفسها، وهو ما جعل النقاش يعود إلى مربع أساسي: هل ما زالت “بتكوين” تخضع للمنطق التاريخي للسوق، أم أنها دخلت مرحلة جديدة تتأثر بالسيولة العالمية أكثر من تأثير صدمات المعروض؟

ويحذّر محللون من أن المستثمرين الأفراد، الذين لطالما كانوا الشرارة الأولى لارتفاعات “بتكوين”، يعيشون اليوم حالة نفاد قدرة نفسية، بعد موجات صعود لاحقتها عمليات تصفية متكررة، جعلت الثقة أشبه بوقود متبخر.

يتفق خبراء السوق على أن ما جرى ليس مجرد تصحيح، بل تعبير عن إرهاق عميق تراكم خلال الأشهر الماضية. فقد لاحق المستثمرون أسهم شركات التعدين والعملات المشفرة في ذروات متلاحقة، إلى أن استنزفت السيولة المتاحة لديهم بشكل كامل. وجاءت التوترات التجارية العالمية بداية أكتوبر لتدفع موجات بيع كثيفة، تزامنت مع تضخم استخدام الرافعة المالية، وهو ما فاقم حدة الهبوط.

المشهد الذي ظهر بعد ذلك كان واضحاً: سوق ممتدة فوق طاقتها، تفتقر إلى مشترٍ قوي، في وقت تراجعت فيه التدفقات إلى الصناديق المتداولة، وباع بعض المستثمرين الأوائل ما لديهم لجني الأرباح أو تقليل التعرض للمخاطر. هذا الخليط خلق سوقاً حساسة لأي تغير، قلقة، وسريعة الانهيار أمام موجات الذعر.

بل إن بعض الشركات الكبرى في القطاع أصبحت قيمتها السوقية تعكس فقط حجم ما تخزنه من “بتكوين”، ما يعني أن السوق فقدت “علاوة الثقة” التي كانت تضيفها على أسهم قطاع العملات المشفرة خلال فترات التفاؤل.

بتكوين بين سردية التحوط… وواقع الارتباط بالاقتصاد الكلي

رغم سردية “الأصل غير المرتبط بالأسواق التقليدية”، بدأت “بتكوين” تتصرف بشكل متزايد كأصل حساس لدورات الاقتصاد الكلي، تماماً مثل الأسهم سريعة التأثر بالسيولة والدولار والسياسة النقدية. ويقول محللو شركات البيانات إن العملة باتت تتحرك وفق اتجاهات السيولة العالمية، أكثر من ارتباطها بصدمات العرض والتعدين.

هذا التحول جعلها عرضة لضغوط شديدة خلال فترات الحذر، خاصة مع تراجع شهية المخاطرة وهبوط العملات البديلة إلى قيعان جديدة، فيما جذب قطاع الذكاء الاصطناعي مضاربين جدداً كانوا سابقاً جزءاً من قاعدة مستثمري الكريبتو.

وعلى الرغم من تصاعد دعم الإدارة الأمريكية، فإن الواقع المالي كان أقوى من الخطاب السياسي؛ إذ لم يحفز هذا الدعم موجة شراء جديدة، بل أظهر أن السوق وصلت إلى حالة تشبّع، وأن الثقة المؤسسية وحدها لم تعد كافية لخلق صعود مستدام.

هل تنقلب الدورة بعد الإغلاق الحكومي الأمريكي؟

رغم التراجع، ما تزال “بتكوين” أعلى بكثير من مستويات ما قبل الانتخابات الأمريكية، ولا تزال البنية التنظيمية والمؤسسية للسوق أقوى من أي وقت مضى. لكن الانخفاض الأخير أعاد طرح سؤال محوري: إذا لم تصعد “بتكوين” في ظل أفضل بيئة سياسية واقتصادية عرفتها الأصول الرقمية، فمتى يمكن أن تفعل ذلك؟

يعتقد بعض المحللين أن الأزمة مرتبطة بالسيولة العالمية، وليس بالسياسة أو بالتنصيف، وأن موجات الصعود الكبرى في 2017 و2021 لم تكن نتاج نقص المعروض وحده، بل جاءت مع توسع ضخم في السيولة المالية الدولية. ويذهب آخرون إلى أن انتهاء الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة قد يعيد النشاط إلى السوق، ويفتح الباب أمام دورة صعودية جديدة إذا تحسن مزاج المستثمرين تجاه الأصول عالية المخاطر.

ومع ذلك، تبقى المخاوف قائمة من احتمال دخول “بتكوين” مرحلة طويلة من الاضطراب، إذا استمر المستثمرون في التعامل معها كأصل يعكس حالة الاقتصاد العالمي أكثر مما يعكس ديناميكيات التشفير نفسها.

تكشف موجة الهبوط الأخيرة عن حقيقة صادمة لأسواق العملات المشفرة: “بتكوين” لم تعد تتحرك بمنطقها القديم. فالدعم المؤسسي وحده لم يكن كافياً لإبقائها في مسار صاعد، والتوقعات المرتبطة بالتنصيف فقدت أثرها أمام تراجع السيولة وارتفاع المخاطر. وبينما تتأرجح الأسواق بين نظريات الماضي ومتغيرات الحاضر، تبدو “بتكوين” اليوم معلّقة بين عالمين؛ أصلٌ يأمل فيه المضاربون، وسوقٌ تتعامل معه كأصل حساس لكل ما يجري في الاقتصاد العالمي.

زر الذهاب إلى الأعلى