الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

بلغاريا تستبدل عملتها وتنضم رسمياً إلى منطقة “اليورو”.. انقسام ومخاوف من الغلاء

الاقتصاد العالمي | بقش

في خطوة تُعدّ من أكثر التحولات الاقتصادية حساسية في تاريخها الحديث، تستعد بلغاريا للانضمام رسمياً إلى منطقة اليورو اعتباراً من الخميس المقبل، لتصبح الدولة الحادية والعشرين التي تعتمد العملة الأوروبية الموحدة وفق متابعة مرصد “بقش”.

لكن هذا الحدث، الذي تراه الحكومة والنخب الاقتصادية البلغارية بوابة للاندماج العميق مع أوروبا الغربية، يأتي مقابل مخاوف شعبية حقيقية من ارتفاع التضخم واضطراب المشهد السياسي في واحدة من أفقر دول الاتحاد.

فخلال أشهر الصيف الفائت، شهدت بلغاريا موجة احتجاجات رافضة للتخلي عن العملة الوطنية “الليف البلغاري”، وقادت هذه التحركات أحزاب يمينية متطرفة وقوى موالية لروسيا، استثمرت في القلق الشعبي المتزايد من احتمال ارتفاع الأسعار فور اعتماد اليورو.

في المقابل، يرى أنصار الخطوة أن الانضمام إلى منطقة اليورو يمثل فرصة اقتصادية لا يمكن تفويتها، خصوصاً أن نحو 70% من صادرات بلغاريا تتجه أصلاً إلى دول تعتمد العملة الأوروبية الموحدة، ما يعني أن الانتقال قد يخفف الأعباء التجارية ويعزز تنافسية الاقتصاد.

رهان الحكومات المتعاقبة
بالنسبة للحكومات البلغارية المتعاقبة، فإن اعتماد اليورو ليس مجرد تغيير نقدي، بل خيار استراتيجي طويل الأمد حسب قراءة بقش، فهذه الخطوة كما يرى صناع القرار، من شأنها دعم اقتصاد البلاد الهش، وتعزيز روابطها مع أوروبا الغربية، وفي الوقت نفسه تحصينها من النفوذ الروسي المتزايد في منطقة البلقان.

وكانت كرواتيا آخر دولة تنضم إلى اليورو في عام 2023، ضمن مسار بدأ رسمياً مع إطلاق العملة الموحدة في الأول من يناير 2002، حين اعتمدتها 12 دولة من دول الاتحاد الأوروبي.

هذا التحول الاقتصادي يأتي في وقت تعيش فيه بلغاريا حالة عدم استقرار سياسي لافت، فالبلاد البالغ عدد سكانها 6.4 ملايين نسمة والعضو في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2007، لا تزال تتأثر بتداعيات احتجاجات مناهضة للفساد أطاحت مؤخراً بحكومة ائتلافية محافظة لم تكمل عاماً في السلطة.

ويُطرح احتمال إجراء انتخابات برلمانية جديدة، قد تكون الثامنة خلال خمس سنوات فقط، ما يعكس عمق الأزمة السياسية.

بوريانا ديميتروفا، من معهد “ألفا” لاستطلاعات الرأي، الذي يدرس مواقف البلغاريين من اليورو منذ عام، تقول إن أي إشكال يرافق اعتماد العملة الموحدة سيجد طريقه سريعًا إلى الاستثمار السياسي من قبل القوى المناهضة للاتحاد الأوروبي.

وتؤكد نتائج استطلاع حديث اطلع عليها “بقش”، لوكالة “يوروباروميتر” التابعة للاتحاد الأوروبي، حجمَ هذا الانقسام، إذ أظهر الاستطلاع أن 49% من البلغاريين يعارضون اعتماد اليورو، مع بروز هذا الرفض بشكل أوضح في المناطق الريفية الفقيرة.

وتختصر بيليانا نيكولوفا، وهي صاحبة متجر بقالة (53 عاماً) في قرية تشوبريني الصغيرة شمال غربي البلاد، مخاوف شريحة واسعة من المجتمع بقولها: “سترتفع الأسعار، هذا ما أخبرني به أصدقائي المقيمون في أوروبا الغربية”.

هذه الهواجس ليست منفصلة عن الذاكرة الاقتصادية القاسية للبلغاريين، الذين عايشوا تضخماً مفرطاً في تسعينيات القرن الماضي عقب سقوط النظام الشيوعي، ومنذ ذلك الحين ربطت بلغاريا عملتها أولاً بالمارك الألماني ثم باليورو، ما جعلها عملياً خاضعة للسياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي، من دون أن يكون لها صوت في صياغة تلك السياسات.

مكاسب متوقعة

لكن هذا الوضع وفق خبراء اقتصاديين على وشك أن يتغير. جورجي أنجيلوف، كبير الاقتصاديين في معهد المجتمع المفتوح في العاصمة صوفيا، يقول إن بلغاريا “ستتمكن أخيراً من المشاركة في صنع القرار داخل الاتحاد النقدي الأوروبي”، بدل الاكتفاء بدور المتلقي.

من جهتها، شددت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، على أن مكاسب اعتماد اليورو ستكون كبيرة بالنسبة لبلغاريا، مشيرةً وفق متابعات بقش إلى تسهيل التجارة، وانخفاض تكاليف التمويل، وتعزيز استقرار الأسعار.

وخلال زيارتها إلى صوفيا الشهر الماضي، أوضحت لاغارد أن الشركات الصغيرة والمتوسطة قد توفر ما يعادل 500 مليون يورو (نحو 588.7 مليون دولار) سنوياً من رسوم صرف العملات الأجنبية.

ومن القطاعات المرشحة للاستفادة بشكل خاص من اعتماد اليورو، قطاع السياحة، لا سيما في الدولة المطلة على البحر الأسود. فقد أسهم هذا القطاع بنحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، ويتوقع أن يشهد دفعة إضافية مع إزالة عوائق الصرف وتسهيل حركة الزوار الأوروبيين.

ورغم محاولات الطمأنة الرسمية، تشير الأرقام التي تتبَّعها بقش إلى أن الضغوط التضخمية حاضرة بالفعل، فحتى قبل الانضمام الرسمي إلى منطقة اليورو، ارتفعت أسعار المواد الغذائية في بلغاريا بنسبة 5% على أساس سنوي في نوفمبر، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء، وهو معدل يزيد على ضعف متوسط منطقة اليورو.

كما قفزت أسعار العقارات بنسبة 15.5% في الربع الثاني من العام، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف متوسط الزيادة في منطقة اليورو.

إجراءات رقابية

في محاولة لاحتواء المخاوف، عزز البرلمان البلغاري صلاحيات هيئات الرقابة المكلفة بالتحقيق في الزيادات المفاجئة للأسعار، والعمل على كبح أي ارتفاعات “غير مبررة” قد ترتبط بعملية التحول إلى اليورو خلال فصل الصيف.

يرى جورجي أنجيلوف أن الانضمام إلى منطقة اليورو سيعزز الشفافية، ويُسهل على المستهلكين وتجار التجزئة مقارنة الأسعار مع بقية دول الاتحاد الأوروبي، ما قد يشكل عامل ضغط إضافي ضد الممارسات الاحتكارية.

الخلاصة، بحسب أنجيلوف، تكمن في شرط أساسي، وهو أن التحدي الحقيقي يتمثل في وجود حكومة مستقرة لمدة عام أو عامين على الأقل، حتى تتمكن البلاد من جني ثمار الانضمام إلى منطقة اليورو بالكامل.

بهذه الصورة تدخل بلغاريا مرحلة مفصلية تجمع بين وعود اقتصادية كبيرة وهواجس اجتماعية وسياسية عميقة، في امتحان جديد لقدرة الدولة على الموازنة بين متطلبات الاندماج الأوروبي وحماية الاستقرار الداخلي.

زر الذهاب إلى الأعلى