بين اتفاق غزة الهش والمخاطر البحرية.. شركة “ميرسك” تعود إلى البحر الأحمر والشركات الأخرى حذرة

أخبار الشحن | بقش
لا يزال البحر الأحمر في واجهة الاهتمام الدولي، بعد عامين من شبه الشلل الملاحي فرضته المخاطر الأمنية، ومع هدوء الأوضاع أعلنت شركة الشحن الدنماركية العملاقة “ميرسك” أن إحدى سفنها نجحت في الإبحار عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، لأول مرة منذ ما يقرب من عامين.
وقالت وكالة رويترز، في تقرير اطلع عليه مرصد “بقش”، إن هناك حذراً محسوباً تتبنّاه كبريات شركات الشحن البحري العالمية في التعامل مع العودة إلى هذا الشريان التجاري الحيوي.
ومنذ نوفمبر 2023 اضطرت شركات الشحن الكبرى إلى تغيير مسارات سفنها نحو طرق أطول وأكثر تكلفة حول رأس الرجاء الصالح، عقب تعرض سفن تجارية لهجمات في البحر الأحمر من قبل الحوثيين في اليمن، حسب رويترز، تضامناً مع قطاع غزة.
وهذا التحول لم يكن تقنياً فحسب، بل أحدث ارتدادات واسعة في سلاسل الإمداد العالمية، ورفع كلفة الشحن، وأطال زمن نقل البضائع بين آسيا وأوروبا.
ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي تم التوصل إليه في أكتوبر 2025 فتح نافذة أمل أمام عودة تدريجية للملاحة، فإن التقارير تُجمع على أن الأمن لا يزال العامل الحاسم، وأن الثقة لم تُستعاد بعد بالكامل.
ميرسك تختبر المياه
الحدث الأبرز تمثل في إعلان شركة ميرسك أن إحدى سفنها نجحت في الإبحار عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، لأول مرة منذ ما يقرب من عامين.
السفينة، التي كشفت الشركة لاحقاً أنها “ميرسك سيباروك”، عبرت الممر خلال يومي الخميس والجمعة، في خطوة وصفتها الشركة بأنها اختبار مدروس وليس عودة شاملة، حسب قراءة بقش.
ميرسك أوضحت أنها لا تخطط حالياً لاستئناف كامل للرحلات عبر هذا المسار، ولا تعتزم إجراء تغييرات كبيرة في شبكة النقل بين الشرق والغرب بل تعتمد ما وصفته بـ”نهج تدريجي” لاستئناف الملاحة عبر قناة السويس والبحر الأحمر.
كما أحجمت الشركة عن تقديم تفاصيل إضافية، مؤكدةً في الوقت نفسه أنه لا توجد رحلات أخرى مخطط لها حالياً.
هذه اللغة الحذرة تعكس إدراكاً عميقاً لحساسية المشهد، وتجنّباً لأي قراءة متفائلة مفرطة قد تصطدم بواقع أمني متقلب.
شركة CMA CGM: عودة جزئية محسوبة
في المقابل، تبدو شركة (CMA CGM) الفرنسية –ثالث أكبر شركة شحن حاويات في العالم– أكثر تقدماً بخطوة، إذ أعلنت أنها ستستخدم قناة السويس في خدمتها (إنداميكس) التي تربط الهند بالولايات المتحدة، اعتباراً من يناير 2026، وفق جدول زمني منشور على موقعها الإلكتروني.
وكانت الشركة الفرنسية نفذت بالفعل عمليات عبور محدودة عبر القناة عندما سمحت الظروف الأمنية بذلك، ما يجعلها نموذجاً لسياسة “العودة المشروطة” التي توازن بين المخاطر والعوائد.
من جانبها، شددت شركة الشحن الألمانية “هاباغ لويد” –خامس أكبر شركة حاويات في العالم– على أن أي عودة واسعة النطاق إلى قناة السويس ستكون تدريجية بالضرورة.
وحسب متابعة بقش، كان الرئيس التنفيذي لـ”هاباغ لويد” صرّح في وقت سابق من ديسمبر أن القطاع سيحتاج إلى فترة انتقالية تتراوح بين 60 و90 يوماً لإعادة ضبط الخدمات اللوجستية، وتفادي الازدحام المفاجئ في الموانئ.
شركات أخرى: الانتظار سيد الموقف
أما “شركة فالينيوس فيلهلمسن” النرويجية المتخصصة في شحن السيارات، فأكدت عبر متحدث باسمها أنها لا تزال تقيّم الوضع، ولن تستأنف الإبحار عبر البحر الأحمر إلا بعد استيفاء شروط معينة، في إشارة إلى أن المخاطر لا تزال قائمة في حساباتها التشغيلية.
وهذا التوجه يتقاطع مع تقييم المحلل نيكوس تاجوليس من مجموعة إنترمودال جروب، الذي قال لوكالة رويترز، إن “معظم شركات النقل تتبنى فيما يبدو نهج الانتظار والترقب، وتراقب التطورات، ومن المرجح أن يحدث أي استئناف كبير تدريجياً”.
العودة المحتملة، وإن كانت محدودة، للعبور من البحر الأحمر، قد يكون لها تأثير مباشر على قطاع الشحن البحري، الذي شهد ارتفاعاً في الأسعار بسبب الأسابيع الإضافية التي يتطلبها الطريق البديل حول أفريقيا وفق رويترز.
وتكمن أهمية القناة في كونها أسرع مسار يربط آسيا بأوروبا، حيث تشير بيانات كلاركسونز ريسيرش التي اطلع عليها بقش إلى أن نحو 10% من حجم التجارة المشحونة بحراً عالمياً كان يمر عبر هذا الممر قبل اندلاع الهجمات في البحر الأحمر.
وقف إطلاق النار.. أمل هش
ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة عزز التوقعات بعودة حركة النقل إلى طبيعتها، إلا أن المحللين يحذرون من هشاشة الاتفاق الذي تخترقه إسرائيل.
المحلل سايمون هيني من شركة دروري شيبينج كونسالتانتس قدّم قراءة زمنية أكثر تحفظاً، قائلاً:
“بحلول نهاية 2026، نقدر أن الأمور ستبدأ في العودة إلى ما كانت عليه قبل بدء هجوم الحوثيين”.
وأضاف: “انخفض مستوى الخطر، لذا فهم مستعدون لاختبار الأوضاع. لكن الحوثيين لا يمكن التعويل عليهم”.
وما تكشفه هذه التطورات ليس عودة وشيكة للبحر الأحمر إلى سابق عهده، بل إدارة حذرة للمخاطر، حيث تختبر شركات الشحن حدود الممكن دون القفز في الفراغ.
ولم تفقد قناة السويس المصرية أهميتها، لكنها باتت رهينة معادلة معقدة، ما بين وقف نار هش، وتهديدات غير مضمونة، وأسواق عالمية لا تتحمل مفاجآت جديدة.
وفي هذا السياق، تبدو عودة الملاحة عبر البحر الأحمر وقناة السويس أقرب إلى مسار طويل من الاختبارات التدريجية، لا إلى قرار استراتيجي نهائي، على الأقل حتى تتأكد الشركات أن الجغرافيا السياسية كفّت يدها، ولو مؤقتاً، عن خريطة التجارة العالمية.


