
الاقتصاد العالمي | بقش
لم يتوقع كثير الاقتصاديين أن تُظهر منطقة اليورو هذا القدر من الصمود في خضم واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في التجارة العالمية. فمع تصاعد الرسوم الجمركية الأمريكية خلال 2025، وخشية الأسواق من دخول مرحلة تباطؤ واسع، أظهرت بيانات الربع الثالث التي تتبَّعها “بقش” مفاجأة واضحة: اقتصاد منطقة اليورو ينمو بوتيرة تفوق التقديرات، في وقت بدا فيه أن الضغوط التجارية ستقود إلى نتيجة مختلفة تماماً.
ويعكس هذا الأداء جانباً من التحولات العميقة في الاقتصاد العالمي. فالرسوم المفروضة من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم تُحدث الأثر الانكماشي المتوقع، ليس فقط بسبب متانة الطلب في أوروبا، بل لأن موجة استثمارات الذكاء الاصطناعي والبنية التكنولوجية في الولايات المتحدة والصين وآسيا فرضت ديناميكية جديدة في أسواق المال والإنتاج. وتشير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن العالم يتقدم بخطى أكثر ثباتاً مما كان يخشاه المحللون، رغم التحولات المتقلبة في التجارة.
وإذا كان النمو الأوروبي غير المتوقع قد أرسل إشارة إيجابية للأسواق، فإن بوادر المخاطر لم تختفِ. فالتوترات الجيوسياسية، والقلق من تقييمات الذكاء الاصطناعي، والخلافات داخل الاحتياطي الفيدرالي حول مستويات الفائدة، كلها عوامل تضيف طبقة من الضبابية على مشهد اقتصادي يحاول أن يعيد تعريف نفسه وسط عالم يتغير بسرعة.
ومع ذلك، فإن الصورة الإجمالية تُظهر اقتصاداً عالمياً يتحرك على حافة التباطؤ دون أن يسقط فيه. فالنمو ما يزال يتقدم، وإن كان ببطء، والأسواق تستجيب لتوازن غير مستقر بين المخاطر والفرص، في وقت تحاول فيه الحكومات استغلال الفترات الانتقالية لإعادة صياغة استراتيجياتها.
أوروبا: مفاجأة النمو رغم اضطراب التجارة
أول المؤشرات الملفتة جاءت من منطقة اليورو، حيث سجّل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بلغ 0.3% في الربع الثالث، متجاوزاً تقديرات “يوروستات” حسب مراجعة بقش. ورغم أنه رقم متواضع، إلا أنه اكتسب أهمية مضاعفة لأنه تحقق في ظل ضغوط الرسوم الأمريكية، وتراجع بعض مؤشرات الصناعة، وتوترات جيوسياسية ممتدة. ويعكس هذا الأداء قوة سوق العمل الأوروبية، التي ساعدت على الحفاظ على مستويات إنفاق مستقرة، ووفرت دعماً لثقة الأسر.
كما لعبت تكاليف الاقتراض المنخفضة دوراً جوهرياً في تنشيط استثمارات الشركات، خصوصاً في القطاعات التي تُراهن على التحول التكنولوجي والطاقة النظيفة. ورغم تباطؤ الطلب الصناعي في بعض الدول مثل ألمانيا، فإن الزخم في فرنسا وإسبانيا وإيرلندا ساهم في تعويض جزء من الضعف.
وعلى صعيد الأسعار، ارتفع التضخم إلى 2.2% في نوفمبر، وهو ارتفاع محدود لكنه كافٍ ليدفع البنك المركزي الأوروبي إلى التريث وعدم التوسع في خفض الفائدة. وتراقب المؤسسة الأوروبية عن كثب تضخم الخدمات، الذي بقي عند 2.4%، وهو ما تعتبره مؤشراً على استمرار ضغوط الطلب البنيوية.
وفي سياق التوقعات العالمية، رفعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقديراتها لاقتصاد أوروبا والولايات المتحدة، لكنها نبّهت في الوقت ذاته إلى أن الأثر الكامل للرسوم الأمريكية لم يظهر بعد. إذ قد تستغرق سلاسل التوريد بعض الوقت قبل أن تعكس التغييرات الهيكلية التي فرضتها بيئة التجارة الجديدة، وهو ما يجعل النمو المستقبلي أقل ضماناً مما يبدو حالياً.
أمريكا: انقسام داخل الاحتياطي الفيدرالي ومخاطر على صانعي التكنولوجيا
على الجانب الآخر من الأطلسي، تبدو الولايات المتحدة في مرحلة إعادة تموضع اقتصادي. فقد بدأ الاحتياطي الفيدرالي يواجه انقساماً داخلياً واضحاً حول المستوى المناسب للفائدة بعد سلسلة خفض استهدفت إنعاش النشاط الاقتصادي. ويعود الانقسام إلى اختلاف تقييم الأعضاء لقوة الطلب المحلي، وللسرعة التي ينبغي أن تُترك الفائدة عندها لتتفاعل مع السوق.
هذا الانقسام ترافق مع تحذيرات أطلقها بنك إنكلترا حول موجة الإنفاق الضخمة التي توجهها الشركات نحو البنية التحتية الخاصة بالذكاء الاصطناعي. وتخشى المؤسسات المالية وفق اطلاع بقش من أن تكون التقييمات الحالية “متمددة بشكل ملحوظ”، ما يجعل أي تعديل سعري مفاجئ قادراً على إحداث اضطراب واسع في أسواق الدين المرتبطة بالشركات التقنية. وقد بدأت مؤشرات مبكرة للضغط تظهر عبر عقود مبادلة مخاطر الائتمان.
وفي خلفية هذه التطورات، تواجه الشركات الصغيرة في الولايات المتحدة ضغوطاً مختلفة. فقد سجّل برنامج الإفلاس الخاص بـ “الفصل الفرعي” رقماً قياسياً هذا العام، إذ تقدّم أكثر من 2200 شركة وأفراد بطلبات لإعادة هيكلة ديونهم. ويشير هذا الرقم إلى أن قطاعات من الاقتصاد لا تزال تعاني رغم قوة السوق الإجمالية، خصوصاً الأنشطة التي تعتمد على التمويل قصير الأجل.
ولم تُحسم بعد تداعيات الرسوم الجمركية على قطاع التصنيع الأمريكي. فبينما تستمر إدارة ترامب في الدفاع عن سياساتها، تُظهر بعض المؤشرات الصناعية مؤشرات تراجع، ما يعزز الجدل حول ما إذا كانت الرسوم تحمي الاقتصاد أم تُبطئه. ويأتي ذلك بينما يترقب السوق هوية رئيس الاحتياطي الفيدرالي الجديد، في ظل تفاوت التوقعات بشأن الاتجاه الذي ستسلكه السياسة النقدية خلال 2026.
آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا: مزيج من التقدم والقلق
في آسيا، كانت كوريا الجنوبية من أبرز النقاط المضيئة، إذ واصلت صادراتها النمو بدعم من أشباه الموصلات والسيارات، وهو ما يمنح سيول هامش مناورة في مواجهة التحولات التجارية العالمية. وتعتبر كوريا مؤشراً مهماً لصحة التجارة الدولية لأن صادراتها حساسة للتغيرات في الطلب العالمي وللتحولات التكنولوجية.
أما في الصين، فقد أثار غياب بيانات مبيعات المساكن الشهرية -بعد أن طلبت الحكومة من وكالتين خاصتين التوقف عن نشرها- تساؤلات حول مستوى الشفافية في قطاع العقارات. ويعزز هذا الإجراء المخاوف من أن التباطؤ العقاري قد يكون أعمق مما تظهره البيانات الرسمية، في وقت تعتمد فيه بكين على تعافي القطاع لدعم النمو الكلي.
وفي أمريكا اللاتينية، بدأت الأرجنتين تستكشف إمكانية العودة إلى أسواق السندات الدولية، في خطوة تعكس تحولاً لافتاً بعد سنوات من الاضطراب المالي حسب قراءة بقش. ورغم أن التنفيذ لم يُحسم بعد، فإن مجرد التفكير الجدي يوضح مقدار التغيير الذي شهدته البلاد في مدة قصيرة. وفي البرازيل، تباطأ النمو إلى 0.1% فقط في الربع الثالث، ما يعزز التوقعات بخفض الفائدة.
وفي أفريقيا، واصلت جنوب أفريقيا تحقيق نمو للربع الرابع على التوالي، مدعومة بقطاعي التعدين والزراعة. ورغم استمرار ضعف قطاع الكهرباء والمياه، فإن الأداء العام يُظهر مستوى غير متوقع من الصمود، مقارنة بالضغوط الكبيرة التي تواجهها اقتصادات القارة في السنوات الأخيرة.
تُظهر مجمل التطورات أن الاقتصاد العالمي يقف عند نقطة توازن دقيقة. فالصمود الذي أظهرته أوروبا وآسيا لم يُلغِ المخاطر المرتبطة بالرسوم الأمريكية ولا التوترات الجيوسياسية. وتستمر موجة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في دعم النشاط العالمي، لكنها تفتح في الوقت ذاته باباً لمخاطر مالية قد تظهر بمجرد حدوث هزة في التقييمات.
كما أن الانقسام داخل الاحتياطي الفيدرالي، وغياب البيانات العقارية في الصين، وتباطؤ البرازيل، ومحاولات الأرجنتين للعودة إلى الأسواق، كلها مؤشرات على عالم تتداخل فيه علامات القوة مع إشارات الضعف ضمن لوحة اقتصادية واحدة. وهذا ما يجعل الاستقرار في 2026 رهناً بقدرة الدول الكبرى على إدارة التحولات دون صدمات في السياسات النقدية أو التجارية.
في النهاية، يبدو أن الاقتصاد العالمي يواصل السير في مسار نمو متواضع لكنه ثابت، في وقت تُبقي فيه الرسوم التجارية وسياسات الفائدة والذكاء الاصطناعي الأسواق في حالة ترقب دائم. ومنطقة اليورو، رغم ضعفها الهيكلي، أصبحت فجأة نموذجاً على قدرة الاقتصادات الكبرى على الصمود بالقرب من العاصفة دون السقوط فيها.


