
الاقتصاد العالمي – بقش
في لحظة دولية تتصاعد فيها النزعات الحمائية وتعيد فيها الولايات المتحدة ترتيب أولوياتها التجارية، تعود مجموعة “بريكس” إلى الواجهة، ليس كمجموعة اقتصادات ناشئة فحسب، بل كمشروعٍ سياسي واقتصادي يسعى إلى ملء الفراغ الجيوسياسي الذي خلفه الانكفاء الأمريكي المتجدد في عهد “دونالد ترامب”.
تجتمع المجموعة، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، هذا الأسبوع في ريو دي جانيرو في قمة تستضيفها البرازيل وفق متابعات بقش، وسط تحديات تتعلق بالتماسك الداخلي، وتضخم عدد الأعضاء، وتزايد الضغوط التجارية الغربية.
إلا أن هذه القمة، بخلاف سابقاتها، تأتي محمّلة برسائل صريحة نحو الولايات المتحدة، تحديداً بشأن الرسوم الجمركية الجديدة التي تعتزم إدارة ترامب فرضها بدءاً من 09 يوليو الجاري على سلع من عدة دول، من بينها الهند والصين وجنوب أفريقيا.
وفقاً لبيانات اطّلع عليها مرصد “بقش”، فإن مشروع البيان الختامي للقمة يتضمّن إدانة لما وُصف بـ”تصاعد الإجراءات الحمائية الأحادية وغير المبررة”، وهي الصياغة ذاتها التي أقرّها وزراء خارجية “بريكس” في اجتماع أبريل الماضي، وتجنبت المجموعة فيها الإشارة المباشرة إلى الولايات المتحدة، لكنها تركت السياق واضحًا لا لبس فيه.
الهند ترد والرسالة تتسع
ويأتي هذا الحراك الجماعي في وقت بدأت فيه الدول الأعضاء تتعامل بجدية مع التهديد الأمريكي بإعادة تعريف العلاقة الاقتصادية مع شركائها التقليديين، فقد نقلت وكالة رويترز أن الهند قررت إعادة فرض رسوم انتقامية على واردات أمريكية، تشمل منتجات التكنولوجيا والصلب والألمنيوم، كرد مباشر على تعرفة بنسبة 25% أعلنتها واشنطن مؤخراً ضمن حزمة ترامب التجارية الجديدة.
وذكرت الوكالة أن نيودلهي قدمت شكوى رسمية لدى منظمة التجارة العالمية، مؤكدة أن الإجراءات الأمريكية “تخرق اتفاقيات التجارة الدولية وتستهدف الاقتصادات الناشئة على نحو غير منصف”.
ويعكس تحرك الهند – ثاني أكبر اقتصاد في “بريكس” – التبدل الجذري في سلوك المجموعة، التي باتت تسعى، وإن ببطء، إلى بناء موقف جماعي في وجه الضغوط الغربية، بدلاً من الاكتفاء بردود فعل فردية.
وقد أكد السفير “زوليسا مابهونغو”، كبير مفاوضي جنوب أفريقيا، في مقابلة على هامش القمة، أن هناك “اتفاقاً واسعاً بين الأعضاء على أن هذه الرسوم لا تخدم النظام الاقتصادي العالمي، ولا تسهم في تنمية الدول النامية”، وأضاف أن “بريكس اليوم تتحدث بلغة المصالح المشتركة، حتى لو لم تتطابق السياسات”.
الصين تقود اقتصادياً رغم التوترات السياسية
في قلب هذا الحراك الجماعي، تبرز الصين باعتبارها المحرك الاقتصادي الرئيسي للمجموعة، فحسب بيانات اطّلع عليها بقش نقلاً عن صندوق النقد الدولي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2024 نحو 19.4 تريليون دولار، أي ما يعادل أكثر من 57% من إجمالي الناتج المحلي لدول “بريكس” مجتمعة.
كما أن الصين تمثل الشريك التجاري الأكبر لجميع أعضاء “بريكس”، وقد استحوذت على ما يزيد عن 65% من إجمالي التجارة البينية داخل التكتل، بحسب بيانات جمعها مرصد بقش من منظمة التجارة العالمية، ويستخدم اليوان الصيني حالياً في أكثر من 30% من المعاملات التجارية الثنائية داخل التكتل، ارتفاعاً من 15% فقط في عام 2021.
ورغم غياب الرئيس “تشي جين بينغ” عن قمة ريو، فإن بكين تمارس حضوراً مؤثراً من خلال آليات التمويل والتعاون المناخي، وقد عقدت الصين محادثات مع كل من إندونيسيا والبرازيل بشأن تنسيق مواقف “بريكس” في قمة المناخ (COP30)، في وقت تكثف فيه دورها كمموّل أول لبنك التنمية الجديد الذي يتخذ من شنغهاي مقراً له.
لكن في مقابل هذا التماسك الخطابي، تتكشف الانقسامات البنيوية للمجموعة، فقد غاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجنّباً لإحراج دبلوماسي مع البرازيل العضو في المحكمة الجنائية الدولية، كما أن الخلافات بين الأعضاء الجدد والقدامى بدأت تظهر، خصوصاً مع رفض مصر وإثيوبيا دعم ترشيح جنوب أفريقيا لمقعد دائم في مجلس الأمن.
وتصاعدت التباينات أيضاً حول صياغة البيان الختامي، بينما رفضت روسيا والصين إدراج إشارات إلى الحرب في أوكرانيا، دفعت مصر باتجاه تضمين فقرات تتعلق بالسلام والأمن في الشرق الأوسط، في ظل استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
وبحسب تحليل أعدّه “بقش” بناءً على وثائق داخلية للقمة، فإن اتساع “بريكس” ليشمل دولاً مثل إيران والإمارات وإندونيسيا ومصر، جعل التنسيق السياسي أكثر تعقيداً، خاصة في ظل غياب أي آلية ملزمة لاتخاذ القرار الجماعي.
وتشير تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى أن التجارة البينية بين دول “بريكس” شهدت نمواً بنسبة 40% بين عامي 2021 و2024، لتصل إلى نحو 740 مليار دولار سنوياً، غير أن هذه الزيادة يقودها بالأساس التبادل مع الصين، بينما لا تزال العلاقات الاقتصادية بين باقي الأعضاء تعاني من ضعف البنية التحتية والافتقار إلى اتفاقات جمركية متكاملة.