حماية شريان التجارة العالمي: كيف أشعلت حرب غزة أزمة البحر الأحمر وكلفت الاقتصاد العالمي المليارات – وهل كان بالإمكان تجنبها؟

سليم مبارك | بقش
منذ نوفمبر 2023، تحولت مياه البحر الأحمر الهادئة نسبياً إلى مسرح لاضطراب هو الأكبر الذي يضرب التجارة العالمية منذ 2019. الهجمات اليمنية على السفن التجارية والعسكرية، لم تكن حدثاً معزولاً، بل جاءت كرد فعل مباشر ومعلن على الحرب الإسرائيلية المدمرة في قطاع غزة، التي اندلعت في أكتوبر 2023، مما ألقى بظلال قاتمة على أحد أهم الممرات الملاحية في العالم وأخضع حركة التجارة العالمية لاختبار قاسٍ.
كانت استجابة قطاع الشحن البحري شبه فورية ومدوية، فبدلاً من سلوك الطريق الأقصر والأكثر كفاءة بين آسيا وأوروبا عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس، اختارت الغالبية العظمى من شركات تشغيل السفن، خاصة الكبرى منها، تحويل مسار سفنها للدوران حول رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي لأفريقيا.
هذا التحويل القسري، كما رصد المرصد الاقتصادي بقش منذ بدايته، أضاف آلاف الأميال ومدة تصل إلى أسبوعين أو أكثر لرحلات السفن (زيادة قد تصل إلى 25% في مدة الرحلة وفقاً لمنصة Flexport)، مما أدى إلى ارتفاع هائل في استهلاك الوقود وتكاليف التشغيل.
وتشير الأرقام بوضوح إلى حجم الاضطراب؛ فبحسب شركة “كلاركسن المحدودة لخدمات الأبحاث” انخفض حجم السفن التي تصل إلى خليج عدن، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، بنسبة كارثية بلغت 70% مقارنة بمستويات عام 2023، وذلك حتى أواخر أبريل 2025.
وتجاوز عدد السفن التي تعرضت لهجمات من اليمن أكثر من 250 سفينة تجارية وعسكرية حتى أواخر أبريل 2025، وفقاً لبيانات مشروع مواقع وأحداث النزاع المسلح (ACLED). ونتيجة لهذه المخاطر، قفزت تكاليف التأمين البحري للسفن التي لا تزال تغامر بالمرور عبر المنطقة بما يصل إلى 10 أضعاف في بعض المراحل، وشهدت أسعار شحن الحاويات ارتفاعات حادة أواخر 2023 ومطلع 2024، وإن كانت قد تراجعت جزئياً منذ ذلك الحين، إلا أنها لا تزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الأزمة بالنسبة للخطوط المتأثرة.
السؤال الملح: هل كان بالإمكان تفادي شلّ التجارة العالمية؟
في خضم تحليل التكاليف الباهظة والاضطرابات اللوجستية التي أحدثتها أزمة البحر الأحمر، يبرز سؤال جوهري ومثير للجدل: هل كان بالإمكان تجنب هذا الاضطراب الذي أثر على تجارة عالمية تقدر قيمتها بأكثر من 2 تريليون دولار سنوياً تمر عبر هذا الممر الحيوي؟.
لقد أعلن الحوثيون منذ اليوم الأول أن هجماتهم تأتي نصرةً لغزة ورداً على “الإبادة الجماعية” التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. فهل كان من الممكن، عبر ضغط دولي حقيقي وفعال على إسرائيل لوقف حربها الشاملة على غزة، ورفع الحصار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية بشكل كافٍ، أن يتم نزع فتيل أزمة البحر الأحمر قبل اشتعالها؟ وهل كانت الاستجابة الدولية، التي ركزت بشكل كبير على الحلول العسكرية في البحر الأحمر وتجاهلت بدرجة كبيرة معالجة السبب الجذري المعلن للهجمات (وهو الوضع في غزة)، هي المقاربة الأكثر حكمة وفعالية؟
ردت الولايات المتحدة وحلفاؤها على هجمات الحوثيين بتشكيل تحالفات عسكرية، أبرزها عملية “حارس الازدهار” تحت مظلة القوات البحرية المشتركة، وإطلاق الاتحاد الأوروبي لمهمة “أسبيدس” المنفصلة.
وابتداءً من يناير 2024، شنت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات جوية وبحرية مشتركة على أهداف للحوثيين في اليمن، تبعتها حملة جوية أمريكية أكثر كثافة تحت إدارة الرئيس ترامب اعتباراً من منتصف مارس 2025 (عملية Rough Rider)، استهدفت أكثر من 1000 موقع في اليمن حتى أواخر أبريل، وفقاً للبنتاغون.
إلا أن هذه الضربات، التي أسفرت عن مقتل مئات المدنيين وفقاً لمشروع بيانات اليمن، لم تنجح حتى الآن في وقف هجمات الحوثيين بشكل كامل أو إقناع شركات الشحن الكبرى بالعودة إلى المسار الطبيعي عبر البحر الأحمر. وتُظهر تجربة العقد الماضي أن القوة الجوية وحدها لم تكن كافية لهزيمة الحوثيين، مما يطرح تساؤلات حول جدوى الاستمرار في هذا النهج دون معالجة الأسباب السياسية الكامنة وراء تصعيدهم.
تكلفة تجاهل السبب الجذري
وفي تعليقه للمرصد الاقتصادي بقش، يرى الخبير الاقتصادي أحمد الحمادي أن التداعيات الاقتصادية لأزمة البحر الأحمر كانت متوقعة في ظل استمرار الصراع في غزة. يقول الحمادي: “لم تكن أزمة البحر الأحمر حدثاً مفاجئاً بمعزل عن سياقه؛ بل كانت نتيجة مباشرة للاحتقان الإقليمي الناجم عن حرب غزة”.
وأضاف الحمادي بأن الجميع قد لاحظ كيف أن التكاليف اللوجستية، من تأمين وشحن، ارتفعت بشكل فوري وحاد بمجرد بدء الهجمات، مما أضاف ضغوطاً تضخمية إضافية على الاقتصاد العالمي الذي لم يكن قد تعافى بالكامل بعد من صدمة الجائحة واضطرابات الطاقة بسبب حرب أوكرانيا.
ويذهب الحمادي إلى ما هو أبعد من ذلك، متسائلاً عن الحكمة الاقتصادية في التعامل مع الأزمة: “من منظور تحليل التكلفة والعائد، يبدو جلياً أن التكاليف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لتعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر، بالإضافة إلى تكلفة العمليات العسكرية المكلفة والمستمرة، تفوق بكثير أي تكلفة سياسية أو دبلوماسية مفترضة لممارسة ضغط جاد وفعال لوقف الحرب في غزة ومعالجة أسبابها الجذرية التي أعلن الحوثيون أنها دافعهم. لقد أدى الفشل في التعامل مع السبب الأساسي إلى تداعيات اقتصادية كان يمكن التنبؤ بها، وربما تفاديها لو تم اتباع نهج دبلوماسي أكثر شمولاً”.
ويضيف الحمادي محذراً من الآثار طويلة الأمد: “الخطر الآن لا يقتصر على اضطراب مؤقت، إذا استمرت هذه الحالة من عدم الاستقرار، وإذا أصبحت الممرات الملاحية الحيوية ساحة لتصفية الحسابات السياسية والعسكرية دون معالجة جذور الصراعات، فإننا قد نشهد تحولات دائمة في طرق التجارة العالمية، وزيادة في تسييس وعسكرة الشحن البحري، وتآكل كبير في الثقة التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي، فتكلفة عدم الاستقرار السياسي الإقليمي على التجارة العالمية باهظة جداً على المدى الطويل”.
تظل أزمة البحر الأحمر، التي ولدت من رحم الحرب على غزة، شاهداً مؤلماً على ترابط الأمن الإقليمي بالتجارة العالمية. فبينما تستمر الجهود العسكرية لاحتواء التهديد المباشر للسفن، تبقى الأسئلة الجوهرية حول إمكانية تفادي الأزمة عبر مسار دبلوماسي مختلف تركز على القضية الفلسطينية، بلا إجابات شافية.