الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

خط أنابيب “قوة سيبيريا 2”.. ورقة جيوسياسية تعيد رسم خريطة الغاز العالمية

الاقتصاد العالمي | بقش

يبدو أن روسيا والصين تمضيان قُدماً نحو تنفيذ مشروع خط أنابيب الغاز العملاق “قوة سيبيريا 2” بعد سنوات من المفاوضات المتعثرة، ليشكل علامة فارقة في مستقبل الطاقة العالمي. ووفقاً لتقرير نشرته بلومبيرغ واطلع عليه مرصد “بقش”، فقد أعلنت شركة “غازبروم” الروسية أنها وقّعت مذكرة مُلزمة مع شركة “تشاينا ناشيونال بتروليوم” لبناء الخط الجديد، في خطوة قد تُمثل تحوّلاً استراتيجياً للطرفين في ظل العقوبات الغربية على موسكو وحرب الرسوم بين واشنطن وبكين.

المشروع يربط شبه جزيرة يامال في القطب الشمالي الروسي بشمال شرق الصين، مروراً بأراضي منغوليا، وبطول يتجاوز أربعة آلاف كيلومتر. وتصل الطاقة المخططة للخط إلى 50 مليار متر مكعب سنوياً، أي ما يعادل تقريباً صادرات خط “نورد ستريم 1” المعطل منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

من منظور الكرملين، يشكل “قوة سيبيريا 2” بديلاً حيوياً لتعويض الخسائر الهائلة التي تكبدتها موسكو بعد انكماش صادراتها من الغاز إلى أوروبا. قبل الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022، كانت أوروبا تستورد نحو 150 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً، لكن هذا الرقم انخفض إلى أقل من عُشره خلال العام الجاري. الاتحاد الأوروبي من جانبه يخطط لإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي بحلول 2027، ما يعني أن موسكو تحتاج بشدة إلى أسواق بديلة طويلة الأمد.

كما أن الخط الجديد سيتيح لروسيا تسويق الغاز القادم من حقول يامال في غرب سيبيريا، وهي نفس الحقول التي كانت تُغذي أوروبا سابقاً. وبذلك يصبح المشروع ليس مجرد خط بديل، بل إعادة توجيه شاملة لصادرات الغاز الروسية من الغرب إلى الشرق، مع ما يحمله ذلك من آثار جيوسياسية بعيدة المدى.

مكاسب الصين وأهدافها

الصين، من جانبها، ترى في المشروع تحوطاً استراتيجياً لتأمين إمدادات طويلة الأمد من الغاز بأسعار منخفضة مقارنة بسوق الغاز الطبيعي المسال (LNG). فبحسب بلومبرغ إن إي إف، الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب الروسية يُكلّف الصين ثلث أقل مما تدفعه في عقود الغاز الطبيعي المسال طويلة الأجل، وأقل من نصف الأسعار الفورية في الأسواق العالمية.

غير أن بكين تتعامل مع المشروع باعتباره “ميزة إضافية” أكثر من كونه “ضرورة”. الطلب الصيني على الغاز لم يعد ينمو بوتيرة مضاعفة كما كان في العقد الماضي، بل تباطأ بفعل التحول إلى الطاقات المتجددة وزيادة الاعتماد على الفحم. لذلك، تحرص القيادة الصينية على أن تكون شروط التعاقد مرنة، حتى لا تُقيدها اتفاقية صلبة لمدة 30 عاماً.

مع ذلك، يوفر المشروع لبكين أداة قوية لموازنة اعتمادها على الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، خاصة في ظل تجدد حرب الرسوم الجمركية التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب بعد عودته إلى البيت الأبيض. الصين فرضت بالفعل رسوماً على واردات الغاز الأمريكي، ولم تستقبل أي شحنة منه منذ فبراير الماضي، ما يعزز حاجتها لتنويع مصادرها.

تحديات التمويل والتنفيذ والتأثيرات المتوقعة

رغم الحماسة السياسية، ما تزال هناك عقبات كبيرة أمام التنفيذ. التمويل هو أبرزها، إذ قد تتجاوز تكلفة البناء 36 مليار دولار، بحسب تقديرات لمركز “كارنيغي روسيا وأوراسيا”. كما أن مرور الخط عبر منغوليا يُدخل طرفاً ثالثاً في المعادلة، ما يضيف تعقيدات لوجستية وسياسية.

ومع ذلك، لدى موسكو وبكين خبرة سابقة في إنجاز مشاريع ضخمة، إذ نجحتا في تنفيذ “قوة سيبيريا 1” الذي يمتد لمسافة 6,000 كيلومتر وبدأ التشغيل بعد خمس سنوات فقط من توقيع الاتفاق. يبقى السؤال: هل يمكن تكرار الإنجاز في ظل العقوبات الأميركية واشتداد المنافسة الجيوسياسية؟

إذا دخل “قوة سيبيريا 2” الخدمة بحلول أوائل ثلاثينيات هذا القرن، فإنه سيعيد رسم خريطة سوق الغاز العالمي. الصين أكبر مشترٍ للغاز الطبيعي المسال، واستلامها كميات ضخمة عبر الأنابيب سيخفض طلبها على الشحنات المنقولة بحراً بما يصل إلى 40 مليون طن سنوياً.

هذا التحول قد يحرر إمدادات إضافية لآسيا وأوروبا، ما قد يؤدي إلى تراجع الأسعار العالمية وتخفيف الضغوط التضخمية على المستهلكين، لكنه في الوقت نفسه يمثل ضربة لمصدري الغاز الطبيعي المسال، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وقطر وأستراليا. بحسب “بلومبيرغ”، فإن فائض العرض المتوقع قد يضغط على خطط بناء محطات تصدير جديدة ويؤجل قرارات استثمارية بمليارات الدولارات.

المشروع ليس مجرد صفقة طاقة، بل ورقة استراتيجية في صراع القوى الكبرى. بالنسبة لموسكو، هو بمثابة ربط اقتصادي طويل الأمد مع شريك استراتيجي يحميها من عزلة الغرب. أما بالنسبة لبكين، فهو أداة لموازنة نفوذ واشنطن في سوق الطاقة العالمية وضمان أمن إمداداتها في حال اندلاع أزمات في الشرق الأوسط أو المحيط الهادئ.

تقرير بلومبيرغ أشار إلى أن الاتفاق جاء في وقت حساس: واشنطن تفرض عقوبات متزايدة على قطاع الطاقة الروسي، وتشن حرب رسوم جمركية جديدة على الصين، بينما الأخيرة لم تتراجع أمام تهديدات ترامب بمعاقبة الدول التي تدعم الاقتصاد الروسي. في هذا السياق، يصبح خط الأنابيب بمثابة تحدٍ مزدوج للولايات المتحدة: فهو يدعم موسكو مالياً، ويمنح بكين قوة تفاوضية أكبر في سوق الغاز.

خط “قوة سيبيريا 2” ليس مجرد مشروع بنية تحتية، بل رمز لتحولات كبرى في موازين الطاقة والاقتصاد العالمي. نجاحه يعني أن روسيا تعيد توجيه مواردها شرقاً بشكل كامل، وأن الصين تُعزز موقعها كقوة تفاوضية في سوق الغاز العالمي، فيما قد يجد الغرب نفسه أمام سوق أكثر تشبعاً بالمعروض، ما يضع ضغوطاً على استثماراته في الطاقة.

وبحسب اطلاع “بقش” على تقارير بلومبيرغ وتاس وكارنيغي، فإن هذا المشروع، إذا اكتمل، قد يوازي في أهميته السياسية والاقتصادية مشروع “نورد ستريم” الذي غيّر معادلات الطاقة الأوروبية قبل عقدين. لكنه هذه المرة يوجّه الرسالة شرقاً، حيث تتشكل معادلة جديدة قد تُحدد مسار العقود المقبلة في سوق الطاقة العالمي.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش