رحلة الشحن في اليمن.. جبايات مضنية وتأخير وخسائر باهظة يدفعها المستهلك الأخير

الاقتصاد اليمني | بقش
تعيش اليمن واحدة من أعقد أزمات النقل والشحن، إذ تجتمع التعقيدات الإدارية والجبايات المتعددة وتهالك البنية التحتية مع الانقسام السياسي وتدهور الاقتصاد، في أزمةٍ لا تقتصر على بطء حركة البضائع فحسب، بل تمتد لتؤثر على كل مفصل من مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، من ارتفاع الأسعار إلى انكماش النشاط التجاري وتآكل القدرة الشرائية للمواطن.
المصرفي علي أحمد التويتي يشير إلى أن كل التجار يتحدثون عن خسائر كبيرة تكبدوها وما زالوا يتكبدونها في المنافذ البرية والبحرية، حيث تُقدَّر الخسائر بعشرات الملايين من الدولارات سنوياً نتيجة الإجراءات الطويلة والمعقدة والجبايات المفروضة على الشحنات التجارية.
ورغم أن النقل إلى اليمن مكلف أصلاً بسبب ارتفاع التأمين على الملاحة إلى موانئها، فإن الأعباء الإضافية الناتجة عن التعقيدات المحلية تضاعف التكلفة بشكل غير مسبوق.
من المنفذ إلى المخزن… عام من الانتظار
يصف التويتي في منشور طالعه بقش، أن رحلة البضائع “رحلة عذاب” تمتد لأشهر طويلة، تبدأ من منفذ شحن الحدودي شرق البلاد، حيث تُحتجز القاطرات لمدة قد تتجاوز الشهر لإجراءات الجمرك، تُدفع خلالها الرسوم والغرامات الباهظة.
بعدها تسلك البضائع طريقاً طويلً محفوفاً بالمخاطر، مليئاً بنقاط التفتيش والجبايات التي تُحصّل في كل نقطة مرور.
مع الوصول إلى مناطق حكومة صنعاء، تبدأ دورة جديدة من الضرائب والفحوصات والقيود التنظيمية التي تُجمّد البضائع لشهور إضافية.
الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالتجار يُجبرون على دفع ضمانات للجودة والمقاييس قبل السماح لهم ببيع سلعهم، وغالباً ما تمتد فترة الفحص إلى أشهر، خاصةً في محافظة ذمار. وخلال هذه المدة الطويلة تكون الأموال مجمّدة، بينما تتآكل البضائع من طول الانتظار.
تكاليف إضافية وبنية تحتية منهارة
الطرق اليمنية المتهالكة تزيد الكارثة تعقيداً، فالقاطرات تدفع رسوم “تحسين” تتراوح بين 200 إلى 350 ألف ريال للحملة الواحدة، ومع ذلك تمر عبر طرق مدمرة مليئة بالحفر والمنعطفات الخطرة.
يقول التويتي إن “القاطرات قد تنقلب في النقيل المكسر وتتلف البضاعة كاملة، وغالباً ما يموت السائق”. يضيف أن الشاحنات التي تنجو من الحوادث تواجه تلف الإطارات وقطع الغيار بسبب رداءة الطرق.
هكذا تُدفع رسوم تحسين لا تُحسن شيئاً، في مثال صارخ على سوء الإدارة وغياب الرقابة على أموال التحسين التي يُفترض أن تُستخدم لصيانة الطرق والبنية التحتية.
الأثر الاقتصادي: من التاجر إلى المواطن
ما يتحمله التاجر من تكاليف إضافية وغرامات وتأخير وجبايات، يُنقل في النهاية إلى المواطن. فارتفاع كلفة النقل والتخزين والفحوصات ينعكس مباشرة على أسعار السلع في الأسواق.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن أسعار السلع ترتفع بنسبة لا تقل عن 50% قبل أن تصل إلى المستهلك النهائي، نتيجة تراكم هذه التكاليف.
وفي ظل انقطاع الرواتب وتآكل الدخل وانعدام الخدمات، يجد المواطن نفسه يدفع ثمن الفساد والازدواج الضريبي وسوء الإدارة، بينما تظل الدولة عاجزة عن ضبط مواردها أو توحيد سلطتها المالية والإدارية.
أزمة الشحن تعكس الانقسام العميق بين السلطات المتعددة في اليمن، فكل منطقة تخضع لسلطة مختلفة تفرض رسومها وجباياتها الخاصة، ما يجعل نقل البضائع بين المحافظات معركة بيروقراطية مكلفة.
وتحولت المنافذ البرية والبحرية إلى جزر مالية مستقلة تجبي الأموال دون توريدها إلى الخزينة العامة، ما يُفقد الدولة القدرة على التخطيط الاقتصادي ويعزز الفساد المنظم.
وتتجاوز تداعيات الأزمة الجانب التجاري لتصل إلى الأمن الغذائي ذاته، فطول مدة الشحن والتخزين يؤدي إلى تلف كثير من السلع، خصوصاً المواد الغذائية والأدوية التي تتأثر بمرور الوقت وبظروف التخزين الرديئة.
كما أن تأخر وصول المواد الخام يضر بالقطاع الصناعي المحدود في البلاد، ويجعل الإنتاج المحلي أكثر كلفة وأقل تنافسية.
بسبب الجبايات: إضراب السائقين في سيئون
في السياق ذاته، دخل سائقو الشاحنات العاملة على الخط الدولي الرابط بين سلطنة عمان واليمن بحضرموت احتجاجاً مفتوحاً على فرض مبالغ مالية غير قانونية من قِبل نقطة أمنية في المنطقة.
لا تقل المبالغ المفروضة عن 150 ألف ريال على كل شاحنة، مقابل السماح لها بالمرور، وفق متابعات بقش، ما دفع السائقين إلى إيقاف حركة الشاحنات كلياً.
ورفض السائقون دفع هذه المبالغ غير القانونية، فتوقفت شاحناتهم في الطريق، بينما اضطر آخرون للدفع بسبب الخوف من تلف البضائع التي تقلّها الشاحنات نتيجة طول التوقف، مشيرين إلى أن هذا الإجراء يتكرر رغم أن بضائعهم خضعت للإجراءات الجمركية كاملة في منفذ شحن الحدودي مع سلطنة عمان، وسددوا الرسوم بنسبة 100% وفق الإجراءات الرسمية الأخيرة.
التجار بين الإفلاس والمخاطرة
أزمة الشحن عموماً في اليمن، دفعت التجار إلى مضاعفة رؤوس أموالهم أربع مرات لتغطية الدورة التجارية الواحدة، بحسب اطلاع بقش على ما نشره التويتي، وهو ما لا يتاح إلا لقلة من كبار التجار، بينما ينسحب الصغار من السوق أو يفلسون.
هذا الوضع يخلق حالة احتكار غير معلنة ويزيد من هشاشة السوق اليمنية التي تعاني أصلاً من الركود وضعف الطلب.
وباتت أزمة الشحن صورة مصغرة للأزمة الاقتصادية والسياسية الشاملة التي تضرب البلاد، فغياب التنسيق بين السلطات، وازدواج الجبايات، وتدهور البنية التحتية، والفساد المتفشي، كلها عوامل حولت التجارة إلى مغامرة خاسرة، وألقت بظلالها الثقيلة على حياة المواطن اليمني.
واقتصادياً، لا يمكن لأي حلول ترقيعية أن تعالج المشكلة دون إصلاح شامل لمنظومة النقل والتجارة وتوحيد الإجراءات الجمركية والضريبية، وتحسين الطرق والمنافذ، وإعادة الاعتبار لهيبة الدولة كمؤسسة قادرة على إدارة اقتصادها بعدالة وكفاءة.


