الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

تقاطع الأزمات في اليمن: جدب الأرض يفاقم الوضع الاقتصادي المتردي

تقرير خاص | بقش

عندما تصدر هيئة أممية مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تقريراً فنياً مليئاً بالأرقام والنسب المئوية، قد يبدو للوهلة الأولى مجرد وثيقة روتينية للمختصين، لكن في سياق اليمن لشهر يونيو 2025، فإن قراءة تلك الأرقام – عجز الأمطار بنسبة 20%، ودرجات حرارة تتجاوز 42 درجة مئوية – بجانب مؤشرات الاقتصاد الكلي، تكشف عن حقيقة أعمق وأكثر إثارة للقلق: نحن لا نشهد مجرد أزمة إنسانية، بل انهيار بنيوي متسارع تتشابك فيه خيوط المناخ مع خيوط الاقتصاد لنسج واقع كارثي.

التقرير الأخير لنظام معلومات الأمن الغذائي والإنذار المبكر، الذي اطلع عليه بقش ويغطي شهر مايو 2025، ليس مجرد جرس إنذار، بل هو بمثابة تشريح علمي لموت بطيء للقطاع الزراعي. فالبيانات تشير ببرود إلى “إجهاد واسع النطاق للمحاصيل” وتأخر زراعة الذرة الرفيعة في مناطق حيوية كعمران وذمار.

لكن هذا “الإجهاد” ليس مجرد نتاج للجفاف؛ إنه يتضاعف بسبب “ارتفاع تكاليف المدخلات” الذي أشار إليه التقرير وفق قراءة بقش. وهنا يكمن تقاطع الأزمات: فتلك التكاليف المرتفعة ليست سوى ترجمة مباشرة للانهيار المريع في قيمة العملة المحلية، والذي يجعل استيراد البذور والأسمدة والمبيدات ضرباً من المستحيل بالنسبة لمزارع يستلم دخله بالريال اليمني الذي فقد قيمته.

بهذا المعنى، فإن الجفاف لم يأتِ على أرض محايدة، بل ضرب بنية اقتصادية مهترئة أصلاً، مما حوّل تحدياً مناخياً إلى عامل مسرّع للانهيار الغذائي. فالمزارع اليمني اليوم لا يواجه شحّ السماء فحسب، بل يواجه أيضاً إفلاس الدولة وعجزها عن حماية عملتها وتوفير أبسط مقومات الإنتاج.

وفي عدن، يتجسد هذا التقاطع بأبشع صوره. فدرجات الحرارة اللاهبة التي وثقها تقرير “الفاو” لا تبقى مجرد رقم في نشرة جوية؛ بل تتحول إلى واقع مميت حين تصطدم بشبكة كهرباء في حالة موت سريري.

الانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي لا يعني مجرد المعاناة من الحر، بل هو شلل كامل للقطاعات الحيوية. إنه يعني توقف أجهزة غسيل الكلى في المستشفيات، وتلف اللقاحات والأدوية في الصيدليات، واستحالة تشغيل مضخات المياه، مما يفرض على المواطنين تكاليف إضافية باهظة لتأمين بدائل لا يستطيعون تحملها.

والأزمة في عدن تتجاوز كونها أزمة خدمات؛ إنها تعبير صارخ عن عجز بنيوي في إدارة الموارد في ظل اقتصاد مدولر بالكامل، فبينما يتقاضى المواطن راتبه بريالات لا قيمة لها، فإنه يُجبر على دفع تكاليف الخدمات الأساسية – من كهرباء المولدات إلى مياه الصهاريج – بما يعادل قيمتها بالعملة الصعبة، وهذه الفجوة ليست مجرد أزمة معيشية، بل هي عملية تآكل ممنهج للقدرة الشرائية للمجتمع، تدفع بشرائح جديدة كل يوم إلى ما دون خط الفقر المدقع.

ما يشهده اليمن اليوم هو حلقة مفرغة وشديدة الخطورة، التدهور البيئي والمناخي يقلّص من قدرة البلاد على إنتاج غذائها، مما يزيد من فاتورة الاستيراد، وفي الوقت نفسه، الانهيار المالي يجعل تمويل هذه الفاتورة شبه مستحيل، بينما يؤدي عجز الدولة عن توفير الخدمات الأساسية كالكهرباء بحسب تحليلات بقش إلى تدمير ما تبقى من بنية تحتية اقتصادية واجتماعية.

الخلاصة التي يمكن استنتاجها من قراءة تقرير “الفاو” في سياقه الاقتصادي الراهن، هي أن اليمن يتجه نحو مرحلة جديدة من الأزمة، تتجاوز الحرب العسكرية المباشرة إلى واقع الانهيار الشامل، فلم تعد المشكلة مجرد نقص في الغذاء أو انقطاع في الكهرباء، بل هي تفكك للأنظمة التي تجعل الحياة ممكنة، وهو ما ينذر بعواقب ستستمر لسنوات طويلة حتى لو صمتت المدافع غداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش