الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

هزة في عرش الثقة الائتمانية: الولايات المتحدة تودع نادي “AAA” ومخاوف عالمية من تداعيات الديون السيادية

الاقتصاد العالمي | بقش

في تطور يعكس تصاعد القلق العالمي بشأن المديونية المتفاقمة للاقتصادات الكبرى، ودعت الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر اقتصاد في العالم، نادي النخبة الائتمانية “AAA”، بعد أن أقدمت وكالة “موديز”، آخر وكالات التصنيف الكبرى التي كانت تمنح واشنطن هذا التقييم المرموق، على تخفيض تصنيفها درجة واحدة.

هذا الحدث لا يمثل مجرد تغيير فني في دفاتر وكالات التصنيف، بل يحمل في طياته دلالات رمزية وعملية عميقة، ويسلط الضوء على تحديات مالية متزايدة تواجه ليس فقط الولايات المتحدة، بل العديد من دول العالم.

فقد أعلنت “موديز” يوم الجمعة الماضي عن قرارها بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من “AAA” إلى “Aa1″، مرجعةً ذلك إلى استمرار ارتفاع حجم الدين العام وتكاليف خدمته. ويأتي هذا القرار ليؤكد المخاوف المتنامية في الأسواق المالية العالمية بشأن استدامة المسارات المالية لعدد من الدول التي طالما اعتبرت ملاذات آمنة للمستثمرين.

أهمية التصنيفات الائتمانية وأضواء على “حراس الثقة” العالميين

لفهم أعمق لتداعيات مثل هذا التخفيض، لابد من إدراك الدور المحوري الذي تلعبه التصنيفات الائتمانية في الاقتصاد العالمي. ببساطة، يُعتبر التصنيف الائتماني بمثابة شهادة جدارة ائتمانية تصدرها وكالات متخصصة ومستقلة، توضح للمستثمرين المحتملين درجة المخاطر المرتبطة بشراء ديون جهة معينة، سواء كانت دولة أو شركة. وتعتمد هذه الوكالات على تحليل دقيق للوضع المالي والاقتصادي للمُصدر، وتقييم قدرته على الوفاء بالتزاماته المالية في المستقبل.

تهيمن على هذا القطاع ثلاث وكالات رئيسية يُطلق عليها غالباً “الثلاث الكبار”، وهي: “ستاندرد آند بورز جلوبال” (S&P Global Ratings)، و”موديز إنفستورز سيرفيس” (Moody’s Investors Service)، و”فيتش ريتينغز” (Fitch Ratings).

وتتمتع تقييمات هذه الوكالات بتأثير واسع النطاق، حيث يمكنها أن تؤثر بشكل مباشر على تكلفة الاقتراض للدول، بحيث أن تلك البلدان ذات التصنيف المرتفع تستطيع الاقتراض بأسعار فائدة أقل، بينما تواجه الدول ذات التصنيف المنخفض تكاليف اقتراض أعلى لتعويض المستثمرين عن المخاطر المتزايدة.

كما تؤثر التقييمات الائتمانية على توجه تدفقات الاستثمار العالمية، فيعتبر التصنيف الائتماني القوي عامل جذب للاستثمارات الأجنبية، بينما قد يؤدي تراجعه إلى عزوف المستثمرين أو حتى هروب رؤوس الأموال، فضلاً عن التأثير على قيمة العملة الوطنية، وكذا اعتبار التصنيف الائتماني مؤشراً على الاستقرار الاقتصادي والإدارة المالية للحكومات، كونه يعكس ثقة الأسواق في السياسات المتبعة.

تمتد آثارها لتشمل تصنيفات الشركات داخل الدولة المعنية، حيث قد تجد الشركات صعوبة في الحصول على تصنيف أعلى من تصنيف دولتها السيادي، وبالتالي فإن تخفيض تصنيف اقتصاد بحجم الولايات المتحدة يثير تساؤلات حول مسارها المالي وقد يضغط على عوائد سنداتها طويلة الأجل، وإن كان المحللون لا يتوقعون موجة بيع حادة للأصول الأمريكية في المدى القصير.

ومع ذلك، تكتسب هذه الخطوة أهمية إضافية في ظل القلق القائم بالفعل بشأن السياسة التجارية الأمريكية ومستقبل الدولار كعملة احتياطيات عالمية.

تقلص قائمة “النجوم الثلاثية”: من بقي في القمة؟

يشهد نادي الدول الحاصلة على التصنيف الائتماني الأسمى “AAA” انكماشاً مطرداً على مدى السنوات الماضية، فبعد خروج الولايات المتحدة من هذه القائمة المرموقة، لم يتبق سوى 11 دولة تحظى بهذا التقييم من وكالات التصنيف الثلاث الكبرى حسب اطلاع بقش، وذلك انخفاضاً من أكثر من 15 دولة قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2007-2008.

والمفارقة أن اقتصادات هذه الدول الإحدى عشر مجتمعة تمثل ما يزيد قليلاً عن 10% فقط من إجمالي الناتج العالمي، ومن أبرز الاقتصادات الأوروبية التي لا تزال تحتفظ بتاج “AAA” نجد ألمانيا، وسويسرا، وهولندا.

أما خارج القارة العجوز، فتضم القائمة كندا، وسنغافورة، وأستراليا. وبهذا التطور، يصبح تصنيف الدين الأمريكي، الذي يمثل أكبر اقتصاد عالمي، في مرتبة أدنى من دين إمارة ليختنشتاين الأوروبية الصغيرة، التي تتمتع بتصنيف “AAA” ولا يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي سبعة مليارات دولار، وفقاً لبيانات البنك الدولي.

رغم ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بثاني أعلى تصنيف ائتماني وهو “AA” (أو ما يعادله) لدى جميع الوكالات الكبرى، وكانت “موديز” هي آخر هذه الوكالات التي أقدمت على تخفيض تصنيف الولايات المتحدة، وهي المرة الوحيدة التي فعلت فيها ذلك منذ عام 1949.

وسبقتها وكالة “ستاندرد آند بورز” في عام 2011، في خطوة تاريخية كانت الأولى من نوعها منذ أن منحت الوكالة الولايات المتحدة تصنيف “AAA” في عام 1941، ثم لحقت بها وكالة “فيتش” في عام 2023 وفق مراجعة بقش، لتكتمل بذلك صورة التراجع في التقييم الائتماني لأكبر مصدر للديون السيادية في العالم.

جبل الديون العالمي: لماذا تتراجع تصنيفات الكبار؟

لا يقتصر شبح تخفيض التصنيف على الولايات المتحدة وحدها، بل يمتد ليطال العديد من الاقتصادات الكبرى الأخرى. وحسب قراءة بقش، تُعزى هذه التراجعات بشكل أساسي إلى الارتفاع المستمر في حجم الدين الحكومي، والمخاوف المتزايدة من عدم كفاية الجهود المبذولة لمعالجة المشكلات المالية الهيكلية طويلة الأجل.

فعلى سبيل المثال، لم تشهد الولايات المتحدة عاماً واحداً منذ 2001 إلا وتجاوز إنفاقها الحكومي إيراداتها، مما أدى إلى عجز مزمن في الميزانية السنوية وتراكم عبء ديون يقارب حالياً 36 تريليون دولار.

وقد أنفقت واشنطن 881 مليار دولار على مدفوعات الفوائد فقط في السنة المالية المنصرمة، وهو ما يزيد بثلاثة أضعاف عن المبلغ الذي أُنفق في عام 2017، بل إن تكاليف الاقتراض باتت تتجاوز الإنفاق الدفاعي للبلاد.

وتتفاقم أعباء الديون على الاقتصادات الكبرى الأخرى أيضاً بفعل عوامل ديموغرافية مثل ارتفاع متوسط أعمار السكان، بالإضافة إلى التكاليف المتزايدة لمواجهة تغير المناخ وتلبية الاحتياجات الدفاعية المتصاعدة. فمثلاً تقترب نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا من 100%، بينما تتجاوز هذه النسبة في اليابان 250%، مما يضع هذه الاقتصادات تحت ضغط مالي هائل ويدفع وكالات التصنيف إلى إعادة تقييم مخاطرها الائتمانية بشكل مستمر.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش