صناعة البناء في إسرائيل تترنح تحت ضربات الحرب ونقص العمالة… وانهيار اقتصادي يهدد أصحاب الأعمال بلا تعويض

تقارير | بقش
دخل قطاع البناء في إسرائيل نفقاً مظلماً مع اشتداد الحرب الدائرة منذ 13 يونيو بين إسرائيل وإيران، حيث تسببت الظروف الأمنية والميدانية في توقف ما يقرب من 50% من مشاريع البناء في أنحاء البلاد، لتتكشف أزمة مركبة تضرب أحد أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي، في ظل استمرار نقص العمالة الحاد الذي بدأ منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة في 08 أكتوبر 2023.
بحسب ما نشره موقع “كالكاليست” الاقتصادي الإسرائيلي، فإن أوامر قيادة الجبهة الداخلية التي دخلت حيز التنفيذ فوراً مع إطلاق العملية العسكرية ضد إيران، فرضت حظراً كاملاً على استخدام الرافعات وأعمال البناء في الهواء الطلق.
وتندرج هذه الإجراءات ضمن حالة الطوارئ القصوى التي تم تمييزها باللون الأحمر، والتي لا تسمح باستمرار العمل إلا داخل الأبنية التي تتوفر فيها غرف طوارئ معيارية يمكن الوصول إليها فور إطلاق الإنذارات.
هذا التقييد أصاب قطاع البناء بالشلل، لا سيما في المشاريع التي لا تزال في مراحلها الأولى، حيث تم تعليق أعمال الرافعات بالكامل، ووفقاً لرئيس جمعية مشغلي الرافعات روي وينشتاين، فإن أكثر من 2300 مشغل رافعة توقفوا عن العمل منذ يوم الجمعة، ما يعني عملياً توقف التقدم الإنشائي في آلاف المواقع التي تعتمد على الرافعات لإنجاز البنية التحتية والهياكل الخرسانية.
وفي حديثه لـ”كالكاليست”، أوضح وينشتاين أن “عدم القدرة على استخدام الرافعات يعني توقف العمل تماماً في مراحل الهيكل الأساسية، وبالتالي فإن المشاريع الإنشائية الجديدة ستكون الأكثر تضرراً، فيما تستمر بعض المشاريع القائمة التي وصلت لمراحل التشطيب، بشكل جزئي”.
نقص العمالة يتفاقم بعد حظر دخول 80 ألف عامل فلسطيني
المشكلة لا تتوقف عند حدود التقنية والمعدات. بل تعمقت بسبب النقص الهيكلي في الأيدي العاملة، فبعد منع دخول نحو 80 ألف عامل بناء فلسطيني في أعقاب حرب غزة، لجأت الحكومة إلى تسريع استقدام العمالة الأجنبية، ما أدى إلى دخول حوالي 55 ألف عامل أجنبي إلى السوق الإسرائيلي، غالبيتهم من دول آسيوية مثل الهند وسريلانكا ونيبال.
لكن بحسب إيتسيك بن يشاي، الرئيس التنفيذي لشركة “إل إم دي غلوبال” وعضو جمعية “داف حداش” التي تمثل عشرات الشركات في القطاع، فإن 50% من هؤلاء العمال أصبحوا بلا عمل حالياً، بسبب توقف مواقعهم عن العمل، وأوضح أن “الوضع الأمني لم يؤثر فقط على المشاريع الجارية، بل منع دخول آلاف العمال الجدد الذين كانوا في المراحل الأخيرة من التدريب أو في طريقهم إلى إسرائيل، حيث توقفت الرحلات الجوية، وتقطعت السبل ببعضهم في دبي أو مطارات دولية”.
من ناحيته، أكد إلداد نيتسان، رئيس جمعية شركات العمال الأجانب في البناء، أن من أصل 55 ألف عامل حالي في القطاع، عاد فقط 25 إلى 30 ألفًا إلى أعمالهم، بينما بقي البقية في منازلهم بانتظار استئناف العمل.
إغلاق مفاجئ للاقتصاد وغياب كامل لخطة التعويض
هذه الأزمة تكشف هشاشة المنظومة الاقتصادية في التعامل مع حالات الطوارئ، خصوصاً في غياب خطة حكومية واضحة لدعم أصحاب الأعمال، الذين وجدوا أنفسهم يُغلقون أبوابهم امتثالاً لأوامر الجبهة الداخلية دون الحصول على أي دعم مالي أو تعويض.
الكاتب الاقتصادي ياكير ليسيتسكي، في مقال نشره في “كالكاليست”، وجّه انتقادات لاذعة إلى الحكومة الإسرائيلية، معتبراً أنها فرضت الإغلاق الكامل منذ الجمعة الماضي دون تقديم أي شبكة أمان اقتصادية، وكتب: “الحرب ليست كارثة طبيعية، بل قرار سيادي تم اتخاذه مسبقاً، وبالتالي من واجب الحكومة أن تدفع الثمن الاقتصادي، لا أن تتهرّب منه”.
الحكومة لم تعلن حتى اللحظة أي خطة تعويض رسمية، رغم أن مصلحة الضرائب جاهزة تقنياً لتفعيل نموذج التعويض الطارئ الذي أُقر في أكتوبر 2023، واعتبر ليسيتسكي أن المماطلة لا مبرر لها سوى غياب القرار السياسي، داعياً وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى الإعلان خلال 48 ساعة عن خطة تعويض شاملة تغطي جميع الأعمال التي أغلقت بأوامر الجبهة الداخلية.
الضرر الاقتصادي بدأ يتجلّى سريعاً: توقفت الطلبيات الجديدة، جُمّدت الأجور، وأُرسلت إشعارات بالتسريح المؤقت أو الدائم لعشرات الآلاف من العاملين في قطاعات الضيافة، والمطاعم، والتجزئة، والخدمات. القيود الأمنية، المفروضة حتى 30 يونيو على الأقل، أجبرت هذه القطاعات على إغلاق كامل دون سابق إنذار أو بدائل واضحة.
أزمة ثقة متصاعدة بين الحكومة والقطاع الخاص
في وصفه للحالة النفسية والاجتماعية، أشار ليسيتسكي إلى أن العديد من أصحاب الأعمال الصغرى اليوم يخدمون في الاحتياط، ما يعني أنهم تركوا خلفهم مطاعمهم ومتاجرهم وأسرهم، وكل ما يتوقعونه “ليس منحة أو هبة، بل مجرد وعد: أن يعودوا فيجدوا أعمالهم قائمة”.
في نهاية المطاف، لا يبدو أن إسرائيل تواجه فقط تحدياً عسكرياً، بل أزمة ثقة داخلية عميقة بين الحكومة والقطاع الخاص، خصوصاً مع انعدام اليقين الاقتصادي، وتراكم الأزمات في القطاعات الأكثر هشاشة، وفي عبارة تلخّص المشهد بأكمله، قال ليسيتسكي: “اليقين ليس مكافأة… بل هو شرط للبقاء”.
إن قطاع البناء، وغيره من قطاعات الأعمال المتضررة، ينتظر اليوم ليس فقط وقف إطلاق النار، بل خطة إنقاذ اقتصادية تعيد الأمل للمستثمرين وأصحاب المشاريع والعاملين في جميع أنحاء إسرائيل. وحتى ذلك الحين، فإن نزيف الخسائر مستمر، ومعه تتآكل ثقة القطاع الخاص بحكومة تفرض الطوارئ… دون أن تتحمل كلفتها.