الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

فوضى اقتصادية ومالية كبرى.. هل العالم مُقبل على “أرجنتنة” جديدة؟

الاقتصاد العالمي | بقش

في إنذار عالمي خطير، نشرت مجلة “إيكونوميست” البريطانية تحذيراً من أن العالم الغني يسير بخطى متسارعة نحو فوضى مالية واقتصادية شبيهة بما حدث في الأرجنتين خلال القرن العشرين، عندما تحوّل اقتصاد متطور إلى حالة مزمنة من التضخم والعجز وفقدان الثقة بالمؤسسات المالية.

فبينما تتراكم الديون في الاقتصادات الكبرى، ويغيب الانضباط المالي لصالح الشعبويات والإنفاق الانتخابي، تبدو الديمقراطيات الغربية عاجزة عن مواجهة حقيقة أن الأموال العامة ليست بلا حدود.

ارتفاع الديون إلى مستويات تاريخية

حسب اطلاع “بقش” على تقرير الإيكونوميست، بلغ الدين العام في الدول الغنية نحو 110% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى منذ حروب نابليون في القرن التاسع عشر، وهذا الارتفاع لا يعود فقط إلى أزمات استثنائية مثل جائحة كورونا أو الحرب الأوكرانية، بل إلى منهجية إنفاق أصبحت سمة سياسية ثابتة، فالحكومات بدلاً من أن تسعى للإصلاح المالي، تغرق أكثر في العجز لتفادي الغضب الشعبي أو الانكماش الاقتصادي قصير المدى.

ففي فرنسا، تصف المجلة المشهد بسخرية وتقول إن “باريس تُغيّر رؤساء حكوماتها أسرع مما كان نبلاء فرساي يبدلون شعورهم المستعارة”، في إشارة إلى هشاشة النظام السياسي وعجزه عن معالجة التحديات الهيكلية، خاصة وسط الاحتجاجات ضد إصلاحات التقاعد المؤجلة.

كما تستمر اليابان في الإنفاق رغم أن ديونها الضخمة للغاية تتجاوز 250% من الناتج، بينما تواجه بريطانيا موجة ضرائب غير مسبوقة لسد العجز، في حين يَعِد ترامب بزيادة خفض الضرائب رغم أن العجز الأمريكي تجاوز 6% من الناتج المحلي.

وترى إيكونوميست وفق قراءة بقش أن جوهر الأزمة ليس اقتصادياً فحسب، بل سياسي وعقائدي، ففي الاقتصادات الديمقراطية المتقدمة، لم يعد ضبط الإنفاق خياراً واقعياً، فالإنفاق الدفاعي يرتفع في ظل التوترات الجيوسياسية (أوكرانيا، تايوان، الشرق الأوسط)، وتكاليف الشيخوخة والرعاية الصحية تبتلع جزءاً متزايداً من الميزانيات، فيما أصبح رفع الضرائب انتحاراً انتخابياً في مناخ شعبوي يرفض أي تقشف.

وتشير المجلة إلى أن كندا في التسعينيات كانت الاستثناء الوحيد بين دول مجموعة السبع التي نجحت في خفض ديونها عبر “انضباط مالي قاسٍ”، أما اليوم فإعادة هذا السيناريو تبدو شبه مستحيلة.

الذكاء الاصطناعي.. أمل خادع

رغم التفاؤل السائد بأن الذكاء الاصطناعي سيرفع الإنتاجية ويقلل عبء الديون، ترى المجلة البريطانية أن هذا الأمل “مضلل”، فهذه التكنولوجيا لن تنقذ المالية العامة لأن ارتفاع الدخول سيقود إلى زيادة الإنفاق على التقاعد والرعاية الصحية، بينما سترتفع أسعار الفائدة بسبب نمو الاستثمار في مراكز البيانات والرقائق، وهو ما سيجعل خدمة الديون القديمة مكلفة بشكل أكبر.

وفي ضوء ذلك، قد تلجأ الحكومات إلى التضخم كوسيلة غير معلنة لتقليص القيمة الحقيقية للديون، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب العجز المزمن عن خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب.

فالبنوك المركزية أصبحت تملك الأدوات اللازمة لذلك، لكن خطر “التواطؤ السياسي” معها يزداد، وتحذر إيكونوميست من أن هجمات السياسيين الشعبويين مثل ترامب ونايجل فاراج على استقلال البنوك المركزية قد تفتح الباب أمام تضخم غير منضبط.

وتقول المجلة: “ارتفاع الأسعار لا يحتاج إلى تصويت سياسي، فهو يحدث ببساطة عندما تفشل الحكومات في إدارة اقتصادها”، مضيفةً: “التضخم يعيد توزيع الثروة بطريقة عشوائية، حيث يخسر أصحاب المدخرات بينما يربح مالكو الأصول والعقارات، وهذه إعادة ترتيب اعتباطية للثروة”.

انهيار الطبقة الوسطى.. خطر على الديمقراطيات

وربما كان أخطر ما في تحليل إيكونوميست هو تحذيرها من أن التقلبات المالية والضريبية والتكنولوجية تهدد بتدمير الطبقة الوسطى، التي تعدّ العمود الفقري للديمقراطيات الغربية.

ومتى ما تآكلت الطبقة الوسطى، تفقد الديمقراطية توازنها الاجتماعي والسياسي، وهو ما حدث فعلاً في الأرجنتين التي كانت يوماً ما من أغنى دول العالم ثم سقطت في حلقة مفرغة من التضخم والفساد والانقسامات الطبقية، وفقاً للمجلة، وتتابع بالقول: “لم يعد التنافس في بوينس آيرس حول من يعمل أو يبدع، بل حول من ينجح في التقاط الدولة واستغلال سلطتها لحماية نفسه من آثار التضخم”.

وتختتم المجلة تقريرها بالإشارة إلى أن الخروج من الأزمة ممكن فقط إذا تذكر العالم أن الأموال العامة ليست بلا حدود، وأن تجاهل هذه الحقيقة هو الطريق الأقصر إلى الفوضى الاقتصادية.

التهديد المحدق بالغرب الغني

يعبّر تقرير إيكونوميست عن تهديد محدق بالنموذج الغربي للإدارة الاقتصادية، فمن خلال التقرير يمكن استخلاص أن الديمقراطيات الغنية باتت رهينة لديناميات انتخابية قصيرة المدى، تجعل من الصعب اتخاذ قرارات مؤلمة ولكن ضرورية.

وأصبحت الديون بنية دائمة لا ظرفية، وهو ما يضعف قدرة هذه الدول على مواجهة أزمات مستقبلية كبرى، كما أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قد تتحول إلى مصدر جديد لعدم المساواة إذا لم تُدَرْ ضمن رؤية ضريبية واجتماعية جديدة.

وفي ضوء ذلك، فإن التحذير الحقيقي لإيكونوميست لا يخص الاقتصاد فحسب، بل النظام السياسي الغربي نفسه، الذي بدأ يفقد توازنه التاريخي بين الرأسمالية المنضبطة والديمقراطية الاجتماعية.

ولا يُعد ذلك تشاؤماً بقدر ما يُعتبر جرس إنذار مبكر للعالم الغربي الذي يتصرف وكأن بإمكانه طباعة المال بلا حدود، لكن التاريخ -من نابليون إلى أزمة الأرجنتين- يثبت أن الديون حين تتجاوز طاقة الدول على إدارتها، لا تنفجر فقط في الأسواق، بل في قلب المجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش