قانون استرداد الودائع المالية.. لبنان بين جحيم الانهيار المالي ومحاولة الإنقاذ المتأخرة

الاقتصاد العربي | بقش
بعد أكثر من ست سنوات على اندلاع واحدة من أعنف الأزمات المالية والاقتصادية في تاريخ لبنان الحديث، أقرّت الحكومة اللبنانية مشروع قانون “الانتظام المالي واستعادة الودائع”، في خطوة تُعدّ مفصلية على طريق معالجة الانهيار المالي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وسط انقسام حكومي وآمال مشروطة باستعادة الثقة داخلياً وخارجياً.
وخلال جلسة لمجلس الوزراء عُقدت يوم الخميس، نال مشروع القانون موافقة 13 وزيراً، فيما عارضه 9 وزراء، وفق اطلاع بقش، ورغم هذا الانقسام أُحيل المشروع إلى مجلس النواب اللبناني ليأخذ مساره التشريعي، في وقت وصفه مراقبون بأنه اختبار حقيقي لإرادة الدولة في مواجهة أكبر فجوة مالية في تاريخها.
رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، خلال مؤتمر صحفي عقب الجلسة، عبّر عن أمله في أن يُقرّ مجلس النواب القانون “بأسرع وقت ممكن”، مشدداً على أن إقراره يشكّل خطوة حاسمة نحو حل الأزمة المالية التي كبّلت البلاد، وحالت دون تمكّن المودعين من استرداد أموالهم المحتجزة في النظام المصرفي منذ سنوات.
تفاصيل القانون
ويرتكز مشروع قانون “الانتظام المالي واستعادة الودائع” على استرداد كامل ودائع صغار المودعين الذين تقل قيمة ودائعهم عن 100 ألف دولار، على أن يتم السداد خلال فترة لا تتجاوز أربع سنوات.
ووفقاً للحكومة اللبنانية، فإن هذه الفئة تمثّل نحو 85% من إجمالي المودعين في لبنان، ما يعني أن القانون يستهدف الغالبية الساحقة من اللبنانيين المتضررين من الانهيار المصرفي، ويُسهم في تسوية ودائع تُقدّر بمليارات الدولارات.
ويُفترض أن يحصل صغار المودعين على أموالهم كاملة ومن دون أي اقتطاع، ومع الفوائد التي تراكمت، خلال الفترة الزمنية المحددة، في تعهّد رسمي يُعدّ الأول من نوعه منذ اندلاع الأزمة.
وحسب قراءة بقش لتصريحات الحكومة، يُعد هذا القانون أهم مشروع إصلاحي في مسار معالجة الانهيار، إذ يهدف إلى تحديد المسؤوليات في فجوة مالية تُقدّر بنحو 80 مليار دولار من أموال المودعين.
وتعود هذه الفجوة، بحسب ما يورده مشروع القانون، إلى اقتراض الحكومة اللبنانية من مصرف لبنان على مدى سنوات، واعتماد المصرف المركزي على الاستدانة من البنوك المحلية، ثم تخلّف الحكومة عن تسديد ديونها للبنك المركزي، ما أدى إلى انتقال الأزمة مباشرة إلى المصارف التي لم تعد تمتلك كامل أموال عملائها.
وهذا التسلسل الانفجاري فجّر النظام المالي من الداخل، وترك المودعين رهائن داخل المصارف، بلا أفق واضح أو ضمانات قانونية.
أما المودعون المتوسطون والكبار، فينص القانون على حصولهم على 100 ألف دولار نقداً، أسوة بصغار المودعين، إضافة إلى سندات قابلة للتداول بقيمة باقي ودائعهم من دون أي اقتطاع من أصلها. ووفق رئيس الوزراء، هذه السندات مدعومة بعائدات وأصول مصرف لبنان أو ناتج بيع جزء منها،
ليست “وعوداً على ورق”، ومدعومة فعلياً بما يصل إلى 50 مليار دولار من موجودات المصرف المركزي، مع جدول سداد واضح يتيح للمودعين استرداد 2% سنوياً من قيمة هذه السندات.
مصادر التمويل
ستعتمد الحكومة اللبنانية، وفق ما ورد في مشروع القانون، على مصرف لبنان وأصوله، والقطاع البنكي اللبناني، لتمويل عملية استرداد الودائع، في إطار مقاربة تشاركية لتحمّل الخسائر.
وقد أشار نواف سلام سابقاً إلى أن الحكومة تتحمّل جزءاً من خسائر المصارف، مع وجود ودائع مشبوهة تخضع للتدقيق، في محاولة للفصل بين الأموال الشرعية وتلك الناتجة عن ممارسات فساد أو تهريب.
ويراهن لبنان على أن يشكّل هذا القانون مدخلاً أساسياً لإعادة فتح قنوات التفاوض مع صندوق النقد الدولي، بعد أن جُمّد الاتفاق المبدئي الموقع في أبريل 2022، الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار.
وقال سلام إن القانون يفتح أبواب صناديق أخرى وأبواب دول مانحة، ويساعد على جلب الاستثمارات، مع حاجة لبنان الماسّة إلى تدفقات مالية خارجية لإعادة تشغيل اقتصاده المنهك.
وتريد الحكومة، حسب نص المشروع الذي طالعه بقش، إلى إعادة بناء الثقة بالنظام المالي والمصرفي، من خلال تقييم أصول المصارف وإعادة رسملتها، بما يمكّنها من استعادة دورها في تمويل الاقتصاد، وتحفيز النمو، والحد من تفشي الاقتصاد النقدي والموازي الذي توسّع بشكل غير مسبوق منذ 2019.
ويأتي هذا القانون بعد إقرار قوانين أخرى تتعلق برفع السرية المصرفية، وإصلاح القطاع البنكي، في إطار حزمة إصلاحات طال انتظارها.
من انتفاضة 2019 إلى اقتحام المصارف
حسب تقارير “بقش”، لا يمكن فهم أهمية هذا القانون دون العودة إلى جذور الأزمة التي انفجرت في 2019، عندما انهار النموذج المالي اللبناني القائم على تثبيت سعر الصرف، واجتذاب الودائع بفوائد مرتفعة، وتمويل عجز الدولة عبر المصارف والمصرف المركزي.
مع شح الدولار، فرضت المصارف قيوداً غير قانونية على السحب والتحويل، ما فجّر احتجاجات شعبية عارمة شملت مختلف المناطق اللبنانية، ورفعت شعارات ضد الطبقة السياسية والمصارف معاً.
ومع مرور السنوات، وتآكل قيمة الودائع بفعل التضخم وانهيار الليرة، تحوّل الغضب إلى مواجهات مباشرة، واقتحام فروع مصرفية، واحتجاز موظفين لساعات، واسترداد ودائع بالقوة تحت تهديد السلاح أحياناً، في مشاهد صدمت الرأي العام المحلي والدولي.
هذه الحوادث كانت تعبيراً عن انسداد الأفق القانوني وغياب أي حل رسمي يعيد للمودعين حقوقهم.
ويُنظر حالياً إلى مشروع قانون الانتظام المالي واستعادة الودائع باعتباره أول محاولة تشريعية شاملة لمعالجة أزمة الودائع منذ اندلاع الانهيار، لكنه يواجه تحديات جسيمة أبرزها تطبيقه فعلياً، وتأمين مصادر التمويل، واستعادة ثقة شعب أنهكته الوعود المؤجلة.
وفي بلد فقد فيه المواطن ثقته بالمصارف والدولة معاً، يبقى السؤال القائم: هل يشكّل هذا القانون بداية الخروج من النفق، أم محطة أخرى في مسار طويل من التسويف؟ ويبقى ذلك رهناً بالسياسة والالتزام والقدرة على تحويل النصوص إلى أفعال، في بلد لم يعد يحتمل مزيداً من الانهيار.


