الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

كنوز اليمن تُهرَّب وتُباع: السوق السوداء للآثار تكبر… ونافذة الإنقاذ تضيق

الاقتصاد المحلي | بقش

تتوالى الإشارات على اتّساع نزيف الآثار اليمنية نحو الخارج. يكشف خبير الآثار عبدالله محسن عن أربع تحفٍ رسولية محفوظة في متحف المتروبوليتان بنيويورك، يتقدّمها إناء وضوء معدني من تعز من عصر الملك المجاهد علي بن المؤيد داود (1321–1363م) مزخرف بالنقوش العربية وشعار الوردة خماسية البتلات، إلى جانب صينية نحاسية صُنعت للسلطان المؤيَّد داود بن يوسف (1297–1321م) تتوسطها تمثيلات الكواكب وعلامات الأبراج، وأسطرلاب فريد منسوب للأشرف عمر بن يوسف (1295–1296م) وثّقت له مخطوطات علمية معاصرة، وموقد محمول منقوش بألقاب السلطان المظفَّر يوسف بن عمر (1250–1295م) وتتكرر عليه الوردة الخماسية بوصفها شعار الدولة.

هذه القطع -الموثّقة أكاديمياً ومحفوظة في أحد أكبر متاحف العالم- تثبت أن ما يُباع ويُعرض في قاعات الغرب ليس مجرد “تحف فنية”، بل وثائق سيادة وهوية جرى انتزاعها من سياقها الوطني وتحويلها إلى أصولٍ تجارية.

في ديسمبر 2024، بيعت رؤوس تماثيل من سبأ وقتبان في دار “جورني وموش” بألمانيا، سبقها – قبل سنوات – بيع وجهٍ برونزي نادر بعيونٍ مرصّعة في باريس (2009).

وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي، وثّق “بقش” مبيعات علنية في الولايات المتحدة لشواهد جنائزية سبئية بأسماء أشخاصٍ معروفين في نقوش المسند – مثل “معد كرب” وابنته “غثم” – بيعت بين 2003 و2008 بلا أي تحرّك رسمي يمني. الأخطر أن مزاداً أمريكياً أخطأ حتى في هوية جنسية قطعة “غثم” وعرّفها بوصفها “ذكراً”، في دلالةٍ على الإهمال المهني والنظرة التِّجارية البحتة التي تتعامل بها الأسواق مع الإرث اليمني.

فجوة قانونية وفراغٌ رسمي… فتُشرعن السرقة

الثغرة تتكرّر: “أصل غير محدد” و”مجموعات خاصة” عبارات تكفي لإدراج القطع في المزادات، بينما لا يزال تسجيل اليمن في قواعد بيانات القطع المسروقة عالمياً شحيحاً على نحوٍ يسهّل مرور اللقى عبر قنواتٍ “نظيفة” ظاهرياً. والنتيجة خسارةٌ مزدوجة: موروثٌ لا يُقدَّر بثمن يضيع إلى الأبد، وفرصٌ اقتصادية وسياحية محلية تتبخّر.

في مصر، أسهمت السياحة – مدفوعة بالمواقع والمتاحف – في توليد إيرادات تجاوزت 14 مليار دولار في 2024 مع 15.7 مليون زائر، وبمساهمةٍ مباشرة وغير مباشرة تقارب 8.5% من الناتج المحلي وتوفير ملايين فرص العمل، بحسب تقديرات المجلس العالمي للسفر والسياحة.

وفي اليونان، تجاوز عدد الزوار 33 مليوناً في 2023، وبلغت مساهمة السياحة نحو 28.5 مليار يورو سنوياً، فيما تشكّل السياحة الثقافية ركيزة أساسية لذلك الدخل. هذه المقارنات تُظهر أن التراث أصلٌ مولِّد للقيمة لا يقلّ شأناً عن النفط والمعادن حين يُدار بسياسة دولة طويلة النفس.

السوق العالمية للآثار المنهوبة: مؤشرات موثّقة بدل “أساطير الأرقام”

رغم شيوع مزاعم مبالغٍ فيها حول “حجم” تجارة الآثار المنهوبة، تُظهر الأدلة الموثوقة أن غياب البيانات المعيارية يجعل تقديرات الحجم العالمي غير يقينية. تحليلٌ صادر عن مؤسسة RAND (2020) خلص إلى أن الروايات الشائعة عن سوقٍ بمليارات الدولارات في الآثار المنهوبة غير مدعومة بأدلة متينة، وأن أفضل ما يتوفر هو مؤشرات ضبطٍ وإنفاذ (مصادرات، واستردادات) تُلمّح إلى حجم نشاطٍ أصغر بكثير من الادعاءات الرائجة، خصوصاً في قنوات الإنترنت التي قُدِّرت معاملاتها في نطاق عشرات الملايين سنوياً لا المليارات.

على الضفة التنفيذية، أعلنت “يوروبول” ضمن عملية Pandora IX (2025) عن مصادرة 37,700 قطعة ثقافية واعتقال 80 شخصاً خلال حملة مشتركة في 33 دولة – رقمٌ يمنح “خطّ قياس” واقعياً لتدفقات السوق غير المشروعة التي تُكشف سنوياً، وقد نقلت “واشنطن بوست” حصيلة العملية عن «يوروبول» مع تفاصيلٍ إضافية حول أنماط التهريب العابرة للحدود.

وفي الولايات المتحدة، تُظهر بيانات مكتب التحقيقات الفدرالي أن جهود إنفاذ القانون أسفرت – منذ 2004 – عن استرداد أكثر من 20 ألف قطعة فنية وأثرية بقيمةٍ إجمالية تتجاوز 900 مليون دولار وفق اطلاع بقش، ما يعكس حجم الخسائر الاقتصادية وقابلية الاسترداد حين تتوافر الإرادة والأدوات القانونية.

وبالمقابل، يقدّر تقرير “آرت بازل–يو بي إس” قيمة السوق الفنية العالمية المشروعة بنحو 65 مليار دولار في 2023 (مع تراجع إلى 57.5 مليار في 2024 وفق “فايننشال تايمز”)، مقارنةً بتلك الكتلة، تبدو تجارة الآثار غير المشروعة صغيرة نسبيًا لكنها عالية العائد على المهرّبين ومُكلفة مجتمعيًا لأنها تستنزف رأس المال الثقافي للدول وتضرّ بثقة السوق الشرعية.

دروس العراق: عندما تتحوّل «الاستعادة» إلى سياسات دولة

بعد نهب المتحف الوطني العراقي عقب غزو 2003، سُرقت نحو 15 ألف قطعة وفق تقديرات متحفية وإعلامية، واستمرّت جهود الاسترداد سنوات. في 2021 أعادت الولايات المتحدة إلى العراق أكثر من 17 ألف قطعة نُهبت خلال الفوضى – في أكبر عملية استرداد فردية من نوعها – بقيمة تقديرية قاربت 10 ملايين دولار، بحسب بيانات رسمية أمريكية وتقارير دولية. هذا المثال يثبت أن الإطار القانوني والتعاون القضائي قادران – حين يتوفران – على عكس اتجاه النزيف ولو جزئياً.

كما رسّخ قرار مجلس الأمن 2199 (2015) حظر الاتجار بالممتلكات الثقافية القادمة من العراق وسوريا، مؤكداً أن تجارة الآثار يمكن أن تكون مورداً لتمويل العنف، ومُرسِلاً إشارة سياسية مهمة لسوقٍ تُغذّيها الطلبات العالمية. المعنى الاقتصادي لليمن: كلما توسّعت دائرة الحظر والتنفيذ، ارتفع ثمن المخاطرة على سلاسل التهريب التي تمرّ عبر البلد.

العراق ليست الدولة الوحيدة ولا الأبرز، فبعد سنوات الحرب، تحوّلت سوريا إلى إحدى الساحات الأكثر نشاطاً في التهريب. تُظهر التقارير الميدانية أن شبكاتٍ منظّمة تستغلّ الفوضى الأمنية وتُهرّب اللقى عبر حدودٍ رخوة إلى سوقٍ عالمية تبحث عن “أصول نادرة”.

وقد وثّقت صحفٌ دولية في 2025 عودة نشاط التهريب مع تقلّبات السيطرة، وتحدّثت عن تجدد حفرٍ غير مشروع وحلقات بيعٍ وتحويل معقّدة.

الدرس لليمن: عندما تغيب الدولة وتضعف السجلات والمطابقات، تصبح المواقع الأثرية «بنوكًا مكشوفة» على الخرائط.

في موازاة ذلك، تواصل عمليات “Pandora” السنوية ضبط تحفٍ ذات منشأ سوري/عراقي ضمن شحنات عابرة لأوروبا وآسيا، ما يدل على أن قنوات التهريب نفسها غالباً ما تُستخدم لدولٍ متجاورة أو متشابهة في ظروف الحرب – وهو ما يجب أن يوجّه تصميم اليمن لاستراتيجية مكافحة عابرة للحدود.

هذا ولا يقتصر تهريب الآثار على جريمةٍ ضد الذاكرة، فهو نزيفٌ اقتصادي مستمرّ. وتدل المؤشرات التنفيذية – من مصادرات “Pandora” إلى استردادات الـFBI – على أن السوق السوداء موجودة، متحوّلة، وعابرة للحدود، لكنها قابلة للانكماش إذا تحركت الدول بسرعة وبأدوات صحيحة.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش