
الاقتصاد العالمي | بقش
بينما تتواصل الاضطرابات في البحر الأحمر الذي يُعد واحداً من أهم الممرات الحيوية للبنية التحتية الرقمية في العالم، أجّلت شركتا “جوجل” و”ميتا” أجزاءً من مشاريع الكابلات البحرية العابرة لهذا الممر الاستراتيجي، في خطوة تعكس حساسية الوضع الأمني في هذا الممر الذي ينقل خُمس حركة الإنترنت العالمية، ويُعد شرياناً أساسياً لحركة السحابة العالمية والخدمات الرقمية العابرة بين أوروبا وآسيا.
هذا التأجيل، الذي كشفته وكالة بلومبيرغ في تقرير اطلع عليه “بقش” أمس الإثنين، جاء بعد سلسلة من التهديدات والمخاطر التي طالت الطواقم والسفن العاملة في المنطقة، ما أدى إلى تعطيل خطط بناء بعض أكبر مشاريع البنية الرقمية في العالم، وفي مقدمتها نظام 2Africa العملاق التابع لميتا، ومشروع Blue-Raman الذي تطوره جوجل لربط أوروبا بالهند عبر مسار بديل يتجاوز الاختناق التاريخي في مصر.
وفقاً للتقرير، فإن جوجل وميتا أوقفتا العمل مؤقتاً في أجزاء من المسارات البحرية داخل البحر الأحمر، بعد تقديرات أمنية خلصت إلى وجود مخاطر مباشرة على “السفن والطاقم”، وهي خطوة غير معتادة في صناعة تعتمد على تنفيذ عمليات معقدة تحت الماء بجدول دقيق ونوافذ زمنية ضيقة.
هذه الخطوة الحساسة تأتي في وقت تعاني فيه القدرة على العبور بين أوروبا وآسيا من إجهاد شديد، وتعرض متكرر لانقطاعات ترفع مستويات الكمون latency في حركة الإنترنت، خاصة بعد حادثة سبتمبر التي قُطع فيها الكابلان الرئيسيان IMEWE و SEA-ME-WE 4 بالقرب من ميناء جدة.
وقد أعقب الحادث زيادة ملموسة في زمن التأخير بين أوروبا وجنوب آسيا أكدتْها شركة مايكروسوفت نفسها، بينما أظهرت بيانات Kentik وفق قراءة بقش تحويلَ حركة المرور حول القارة الأفريقية بالكامل، وهو مسار أطول وأبطأ.
هذه التحويلات، وإن كانت حلولاً اضطرارية، قد تتكرر في أي اضطراب قادم إذا استمرت التأجيلات ولم تدخل السعات الجديدة إلى الخدمة.
مشاريع عملاقة على المحك
تُظهر خرائط TeleGeography أن كابل 2Africa -الذي يبلغ طوله 45,000 كيلومتر، ويُعد من أطول الأنظمة البحرية في تاريخ الاتصالات- لا يزال غير مكتمل في القطاع الخاص بالبحر الأحمر، ويمثل هذا النظام حجر زاوية في خطط ميتا لتوسيع قدرتها السحابية وربط 33 دولة حول القارات الثلاث.
أما مشروع جوجل Blue-Raman، فهو في الأصل محاولة هندسية مثيرة لتجاوز bottleneck مصر، عبر مسار يربط أوروبا والهند مروراً بإسرائيل والأردن، لكنه رغم كونه محاولة للتخفيف من الاعتماد على قناة السويس، يظل ملزماً بوجود أرجل بحرية تمر بمناطق قريبة من بؤر الصراعات، ما يجعله عرضة للمخاطر ذاتها التي تضرب مشاريع البحر الأحمر.
وحسب اطلاع بقش على تقرير بلومبيرغ، تُعتبر هذه المخاطر سبباً مباشراً لوقف العمل مؤقتاً.
ولم يكن حادث قطع الكابلات في سبتمبر سوى جزء من عاصفة أكبر، فالمشغلون أبلغوا خلال العام الماضي عن ارتفاع أقساط التأمين على السفن العاملة في المنطق، ونقص متزايد في شركات الشحن المستعدة لعمليات الإصلاح، وصعوبة متزايدة في الحصول على نوافذ زمنية آمنة لتنفيذ مهام الإصلاح.
وفي تقرير حديث عن مرونة البنية التحتية تحت البحر، حذّر البرلمان البريطاني من أن البحر الأحمر “أصبح خطراً حقيقياً” على الكابلات البحرية، مشيراً إلى الدور المتزايد للجهات غير الحكومية، وإلى حالة عدم اليقين التي تكتنف قدرة الشركات على تنفيذ الإصلاحات في الوقت المناسب.
تباطؤ عالمي وخطوط ضغط جديدة
حين تتعرض المسارات البحرية بين أوروبا وآسيا لانقطاعات أو تتجنبها الشركات خوفاً على سفنها، يتم تحويل حركة البيانات نحو طرق أطول تمر حول أفريقيا. وهذه التحويلة تزيد زمن الاستجابة latency، والضغط على شبكات بديلة أقل سعة، واحتمالية حدوث تباطؤ ملحوظ في الخدمات السحابية للمستهلكين والشركات.
وهذا التأثير ليس نظرياً، إذ ارتفعت أزمنة الاستجابة لخدمات واسعة، بدءاً من تطبيقات المستهلكين، ووصولاً إلى الأنظمة المؤسسية المعتمدة على الحوسبة الموزعة.
وبدون إضافة السعات الجديدة التي توفرها مشاريع جوجل وميتا، قد تواجه الشبكات العالمية التأثير ذاته -وربما أسوأ- في أي اضطراب مستقبلي.
تأجيل لا مفر منه
رغم هذه الاضطرابات، لا توجد مؤشرات على إلغاء المشاريع نفسها، فاستثمارات الكابلات البحرية تشهد نمواً واسعاً حول العالم، غير أن تعديل الجداول الزمنية و تأجيل الانتشار باتا واقعاً مفروضاً، خصوصاً في ممر تعتمد فيه أعمال الحفر والوضع والإصلاح على الاستقرار الجيوسياسي بدرجة غير مسبوقة.
ولا يمكن قراءة تأجيل مشاريع جوجل وميتا بمعزل عن الأزمة الأكبر في البحر الأحمر خلال العامين الأخيرين، فالممر الذي يمر عبره 12% من التجارة العالمية، و30% من تجارة الحاويات البحرية، وخُمس حركة الإنترنت العالمية عبر كابلاته البحرية، تحوّل من ممر آمن إلى منطقة نزاع مفتوح، نتيجة التصعيد العسكري المرتبط باستمرار الحرب على غزة.
وتشير التقارير إلى أن أزمة استهداف السفن أثرت على سفن مدّ الكابلات وسفن الإصلاح وسفن المسح الهندسي والطواقم المتخصصة، وهذه السفن تُعد العمود الفقري للبنية التحتية الرقمية العالمية، إذ إن كل عملية ترميم أو مد أو اختبار تستلزم بقاء السفينة في منطقة قد تكون هدفاً لهجمات أو عرضة للاشتباكات البحرية.
لهذا ارتفعت كلفة العمل في المنطقة بشكل كبير، وأصبحت المخاطر الأمنية جزءاً لا يمكن تجاوزه في أي تقدير مالي أو هندسي.
ولا يعني تأجيل الكابلات مجرد تعطيل مشاريع شركات التكنولوجيا، بل يشير إلى تأخر توسع السحابة في آسيا وأفريقيا، وبطء نمو اقتصادات تعتمد على الاتصالات، وزيادة التكلفة التشغيلية لمراكز البيانات، وانتقال حركة إنترنت هائلة إلى مسارات أقل أمناً وأطول زمناً.
إضافةً إلى ذلك، فإن اعتماد العالم بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي والخدمات السحابية يجعل أي اختناق في حركة البيانات بمثابة تهديد اقتصادي عالمي وفق قراءة بقش يشابه تأثير تعطيل قناة السويس، وربما أسوأ، باعتبار الاقتصاد الرقمي أساس الاقتصاد الحديث.
بالنتيجة، يعبّر قرار جوجل وميتا بتأجيل مشاريع الكابلات البحرية في البحر الأحمر عن مشهد أكبر يعكس هشاشة البنية التحتية الرقمية العالمية رغم ضخامتها، وتحول البحر الأحمر إلى نقطة توتر جيوسياسي تهدد الاتصال، ودخول أطراف غير حكومية ومعادلات صراع معقّدة أثرت على أمن السفن والطاقم، واعتماد الاقتصاد الرقمي على مسارات بحرية حساسة، حيث يؤدي أي اضطراب بسيط إلى تباطؤ عالمي واسع.
وربما يتجه العالم وفق التحليلات إلى مرحلة يصبح فيها أمن الكابلات البحرية جزءاً من الأمن القومي للدول، وجزءاً من حسابات الشركات الكبرى، وجزءاً أيضاً من التوازنات السياسية في منطقة تقف اليوم في قلب العاصفة.


