
الاقتصاد العالمي | بقش
في تحرك يؤكد حجم التحولات الجيوسياسية والقلق المتزايد داخل المؤسسة الأمريكية تجاه صعود القوى المنافسة، كشف الكونغرس الأمريكي عن مشروع قانون الدفاع لعام 2026، بموازنة هي الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة: 901 مليار دولار.
ورغم أن الرئيس ترامب طلب في مايو 2025 موازنة قدرها 892.6 مليار دولار، أي مماثلة تقريباً لعام 2025، فإن الكونغرس رفع الرقم إلى مستوى قياسي، في رسالة سياسية مفادها أن أمريكا مقبلة على مرحلة عسكرة أكبر، وصراع طويل الأمد مع الصين، وتثبيت أوسع لحضورها العالمي.
ووفق اطلاع مرصد “بقش” يمتد مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني، المؤلف من 3 آلاف صفحة، ليغطي كل الملفات المتشابكة التي ترى فيها واشنطن عناصر تهديد أو عناصر قوة يجب تعزيزها، من الصين وإيران وروسيا، إلى الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، مروراً بإسرائيل وأوكرانيا وسوريا والعراق، ووصولاً إلى إصلاح الصناعات العسكرية الأمريكية نفسها.
الصين أولاً.. التهديد الأكبر ومركز الثقل في الموازنة
تكشف بنود المشروع عن تحول بنيوي، إذ لم تعد الصين منافساً استراتيجياً فقط للولايات المتحدة الأمريكية، بل أصبحت التهديد الأول لها وفق تشريع الدفاع الجديد.
وينشئ مشروع القانون نظام مراقبة شامل للاستثمارات الخارجية، يلزم الشركات والمستثمرين الأمريكيين بإبلاغ وزارة الخزانة عند الاستثمار في تقنيات عالية الخطورة داخل الصين أو دول تعتبرها واشنطن “كيانات مثيرة للقلق”.
وتملك الوزارة بموجب النظام الجديد صلاحية حظر الصفقات، وفرض تقارير سنوية على الكونغرس، وفرض عقوبات على الشركات الأجنبية المرتبطة بالجيش الصيني أو بشبكات المراقبة.
وهذه الإجراءات تعكس إدراكاً أمريكياً أن معركة التكنولوجيا متقدمة على معركة الجيوش، وأن الصين تتفوق في مجالات حساسة كالذكاء الاصطناعي والطاقة والبطاريات المتقدمة.
ويشمل القانون منع التعاقد مع شركات صينية مختصة بالتسلسل الجيني والبيانات البيومترية، خصوصاً تلك المرتبطة بالجيش أو الأمن الصيني. كما يفرض التخلص التدريجي من أجهزة الكمبيوتر الصينية، والطابعات، والمعدات الإلكترونية، والشاشات، والمعادن الحيوية، والبطاريات، ومكونات الطاقة الشمسية، وكلها أجزاء من سلاسل توريد تعتبرها واشنطن “أبواباً محتملة لاختراق البنتاغون”.
ويوجّه المشروع وزارة الخارجية لإرسال فريق عالمي من “ضباط الشؤون الصينية” لمراقبة الأنشطة التجارية والتكنولوجية والبنى التحتية الصينية، بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق، كما يفرض تقارير نصف سنوية تقارن الوجود الدبلوماسي للصين بذلك الأميركي، في مؤشر إلى أن واشنطن ترى الصراع مع بكين صراع نفوذ عالمي متعدد الأبعاد.
ويمدد القانون مبادرة الردع في المحيط الهادئ، والتدريبات المشتركة، والمبادرات الصناعية الدفاعية مع الحلفاء، مع تركيز واضح على تايوان والفلبين، ما يعكس أن واشنطن تحضّر جبهة “احتواء” كاملة تحسباً لسيناريوهات عسكرية مع الصين.
إسرائيل.. دعم مفتوح وتعاون دفاعي أوسع
رغم الجدل الأمريكي حول الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل في حرب غزة وما تلاها من تصعيد مع إيران، يكرّس مشروع قانون الدفاع دعماً عسكرياً مباشراً وغير محدود.
يُجيز المشروع تمويل “القبة الحديدية”، وتمويل ومنظومة الدفاع الجوي “مقلاع داوود”، وتمويل النظام الدفاعي المضاد للصواريخ البالستية “آرو”، ضمن برامج الدفاع الصاروخي المشترك.
ويحظر المشروع على البنتاغون المشاركة في أي معرض دفاعي دولي يستبعد إسرائيل، ما يعكس انتقال الدعم من السياسة إلى البنية المؤسساتية.
كما ينص المشروع على تعزيز تبادل البيانات وتحسين فعالية الاستجابة المشتركة، خاصة بعد الهجمات الصاروخية والمسيّرات الإيرانية على إسرائيل في يونيو 2025.
أوكرانيا.. استمرار الدعم رغم التردد السياسي
وبالنسبة لأوكرانيا، يشمل المشروع تقديم 400 مليون دولار سنوياً كمساعدات عسكرية لكييف، حتى 2027.
كما يُلزم إدارة ترامب بالحصول على تقارير دورية حول مساهمات الحلفاء في دعم كييف، في محاولة للضغط على أوروبا لعدم التملص من أعباء الحرب.
العراق.. إلغاء تفويضين تاريخيين
يتضمن المشروع إلغاء تفويضين قديمين، هما: تفويض حرب الخليج 1991، وتفويض غزو العراق 2002.
وصف مشرعون الخطوة بأنها “انتصار صغير” لتقييد سلطات الرئيس في شن الحروب، رغم أن مسؤولاً جمهورياً أكد أن الإلغاء لن يحد صلاحيات ترامب كقائد أعلى.
ويبقى تفويض 2001 (الحرب على الإرهاب) سارياً، وهو أساس أغلب التدخلات الأمريكية من أفغانستان إلى أفريقيا.
واستُخدم هذا التفويض لتبرير اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني عام 2020، وهو ما اعتُبر دليلاً على “إمكانية إساءة استخدامه”.
إيران… مراقبة تخصيب اليورانيوم
ينص المشروع أيضاً على مراقبة أنشطة التخصيب النووي الإيراني، وتحذير “الأمريكيين” المهدَّدين بمخططات اغتيال إيرانية، والتعامل مع الأسلحة المتجهة من إيران إلى الحوثيين في اليمن.
وكذلك تقييم التهديدات التي تواجه الحلفاء ضمن نطاق CENTCOM، بما يشمل الصواريخ الباليستية، وصواريخ كروز، والطائرات المسيّرة، وهو ما يعكس محاولة واشنطن بناء شبكة دفاع متعددة المستويات ضد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
سوريا.. خطوة أولى نحو إلغاء “قانون قيصر”
يتضمن المشروع بنداً لبدء إلغاء العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون قيصر، ويلزم رئيس الولايات المتحدة بتقديم تقرير كل 6 أشهر لمدة 4 سنوات، لتقييم أداء الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع في ملفات مثل مكافحة الإرهاب.
واعتُبر ذلك تطوراً كبيراً في السياسة الأمريكية بخصوص سوريا، ويعكس تحولاً تدريجياً نحو إعادة الانخراط الحذر مع دمشق.
الذكاء الاصطناعي والعملة الرقمية.. معركة أخرى داخل أمريكا
لا يمنع مشروع القانون إصدار عملة رقمية للاحتياطي الفيدرالي، رغم الضغوط الجمهورية. ويعارض الجمهوريون إصدار “دولار رقمي” كونه يمسّ الخصوصية ويمنح الحكومة قدرة رقابية واسعة على معاملات الأفراد.
وينشئ المشروع لجنة جديدة للتوجيه الاستراتيجي للذكاء الاصطناعي المتقدم، بما يشمل توقعات بعيدة المدى، وسياسات للذكاء الاصطناعي العام، وتنظيم التفاعل بين التكنولوجيا والأمن القومي.
إصلاح الصناعات العسكرية الأمريكية
يعالج التشريع عدة مشكلات جوهرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال توسيع الشراء متعدد السنوات للذخائر والمنصات المطلوبة بشدة، وإجازة أدوات استثمار جديدة، وسرعة إدخال التقنيات التجارية الحديثة، وفرض شروط تشبه “حق الإصلاح” تُلزم المتعاقدين بتزويد البنتاغون بالبيانات التقنية الكاملة لصيانة منظومات الأسلحة، للحد من التأخير وتقليل اعتماد الجيش على الشركات.
هذه البنود تكشف عن اعتراف داخلي بأن الآلات البيروقراطية الأمريكية لم تعد قادرة على تلبية متطلبات التنافس العسكري مع الصين وروسيا.
القيود على سحب القوات الأميركية من أوروبا وكوريا
يمنع القانون خفض القوات الأمريكية في أوروبا إلى أقل من 76 ألف جندي لأكثر من 45 يوماً، إلا بشروط صارمة، منها شهادة من وزير الدفاع بيت هيجسيث، وشهادة من قائد القوات الأمريكية في أوروبا تؤكدان أن الخفض يصبّ في مصلحة الأمن القومي، وأنه تم التشاور مع الحلفاء وتقديم تقييمات للتداعيات.
كما يمنع التخلي عن دور “القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا” والذي يشغله دائماً “ضابط أمريكي”.
وبالنسبة لكوريا الجنوبية، يضع المشروع قيوداً مماثلة لمنع خفض القوات الأمريكية إلى أقل من 28,500 جندي.
وهذه البنود تكشف عن صراع داخلي بين توجه ترامب لخفض الوجود الخارجي وتوجه الكونغرس نحو تكبيل يد الرئيس ومنع أي فراغ تريد الصين أو روسيا ملأه.
مسار المصادقة على القانون
يأمل قادة مجلس النواب التصويت على هذا المشروع خلال الأسبوع الجاري، ومروره عبر لجنة القواعد، ثم الجلسة العامة، ثم التوجه إلى مجلس الشيوخ قبل وصوله إلى مكتب ترامب للتوقيع.
ويبدو أن المشروع خريطة طريق لعقد كامل من الصراع الجيوسياسي، إذ يحمل ملامح بارزة تؤكد أن الصين هي التحدي المركزي، وأن إيران خطر متعدد المحاور، وأن روسيا خصم يجب استنزافه عبر أوكرانيا، بينما إسرائيل شريك لا يُمسّ.
في السياق نفسه تعتبر أمريكا سوريا والعراق ملفات يجب إعادة صياغتها، وأوروبا وكوريا قواعد ارتكاز لا يمكن التخلي عنها، وبنفس الوقت ثمة اتجاهات تصحيحية تتمثل في أن الذكاء الاصطناعي سيصبح جزءاً من الأمن القومي، لا مجرد تقنية، وأن الصناعات العسكرية الأمريكية ورقة رابحة لكنها متهالكة تحتاج إلى إعادة ترميم.


