ترامب يلوّح بالحرب مع فنزويلا ومصادرة المزيد من الناقلات: النفط كسلاح ضغط وسط فائض المعروض

تقارير | بقش
أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ملف فنزويلا إلى واجهة المشهد الجيوسياسي للطاقة، حين أبقى خيار الحرب مطروحاً، بالتزامن مع فرض حظر شامل على ناقلات النفط المتجهة من وإلى فنزويلا، والتلويح بمصادرة المزيد منها. هذا التصعيد لا يمكن قراءته كخطاب سياسي معزول، بل كجزء من استراتيجية ضغط متعددة الأدوات، تتداخل فيها الحسابات العسكرية مع ديناميكيات أسواق الطاقة العالمية.
التحرك الأمريكي يأتي في توقيت بالغ الحساسية، حيث تشهد أسواق النفط فائضاً في المعروض، وتداولاً للأسعار قرب أدنى مستوياتها منذ نحو خمس سنوات. هذا الواقع منح واشنطن هامش مناورة واسعاً، قلّص من مخاطر أي صدمة محتملة على السوق في حال تصعيد الضغوط على أحد المنتجين المعزولين مثل فنزويلا.
في المقابل، يشكل النفط الفنزويلي شرياناً مالياً أساسياً لنظام الرئيس نيكولاس مادورو، ما يجعل استهداف ناقلاته البحرية أداة مباشرة لتجفيف الموارد، دون الحاجة إلى مواجهة برية أو إعلان حرب تقليدية. ومن هنا، يصبح البحر ساحة الصراع الأساسية، حيث تمتزج العقوبات الاقتصادية بالقوة العسكرية المحدودة.
بهذا المعنى، لا يقتصر تهديد ترامب على فنزويلا وحدها، بل يوجه رسالة أوسع إلى أسواق الطاقة مفادها أن الجغرافيا السياسية ستظل عاملاً حاضراً، لكن ضمن سقف محسوب لا يهدد استقرار السوق العالمي.
مصادرة الناقلات كبديل عن الحرب المفتوحة
إبقاء ترامب احتمال الحرب “على الطاولة” ترافق مع تأكيده على مصادرة المزيد من ناقلات النفط الفنزويلية، في حال استمرارها في الإبحار. هذا النهج يعكس تفضيلاً واضحاً لأدوات الضغط غير التقليدية، التي تقع في المنطقة الرمادية بين العقوبات والحرب.
مصادرة الناقلات تمثل ضربة مزدوجة: فهي تحرم كاراكاس من العائدات، وتزيد من كلفة التأمين والشحن لأي جهة تحاول التعامل مع النفط الفنزويلي، ما يؤدي عملياً إلى خنق الصادرات حتى دون إعلان حصار رسمي كامل.
في الوقت ذاته، تحرص الإدارة الأمريكية على تأطير هذه العمليات تحت عنوان مكافحة تهريب المخدرات وتمويل الإرهاب المرتبط بالنفط، في محاولة لإضفاء شرعية أمنية على إجراءات ذات طبيعة اقتصادية بحتة. هذا الخطاب يخفف من كلفة التصعيد سياسياً، داخلياً وخارجياً.
ومع ذلك، فإن التوسع في هذه العمليات يرفع من احتمالات الاحتكاك العسكري غير المقصود، خصوصاً في منطقة الكاريبي، حيث تتركز التحركات البحرية. وهو ما يفسر حرص ترامب على إبقاء المواقف غامضة، دون تحديد أهداف نهائية أو جداول زمنية واضحة.
فنزويلا ما بعد مادورو: النفط حاضر والقطاع غائب
في خلفية التصعيد، يلوح تصور أمريكي لمرحلة “ما بعد مادورو”، حيث بدأت الإدارة استطلاع آراء شركات النفط الأمريكية بشأن العودة المحتملة إلى فنزويلا في حال تغيير النظام وفق اطلاع بقش. غير أن الردود السلبية من هذه الشركات تكشف فجوة واضحة بين الطموح السياسي والواقع الاستثماري.
رفض شركات النفط العودة يعكس مخاوف تتجاوز العقوبات، لتشمل هشاشة البنية التحتية، وعدم استقرار الأطر القانونية، وانهيار قطاع الطاقة الفنزويلي ذاته بعد سنوات من سوء الإدارة والعزلة. حتى في حال رفع العقوبات، فإن إعادة تشغيل الحقول والموانئ تتطلب استثمارات ضخمة وزمناً طويلاً.
هذا التباين يوضح أن النفط، رغم مركزيته في الصراع، لم يعد ضمانة تلقائية لجذب الاستثمارات. فأسواق الطاقة العالمية اليوم أقل اعتماداً على أي منتج منفرد، وأكثر حساسية لمخاطر الاستقرار السياسي.
وبذلك، فإن الضغط الأمريكي على فنزويلا لا يستند فقط إلى الرغبة في تغيير النظام، بل أيضاً إلى إدراك أن غياب النفط الفنزويلي عن السوق لم يعد يشكل تهديداً حقيقياً لتوازن العرض والطلب العالمي.
العامل الحاسم في هذه المعادلة هو وضع السوق العالمي. فالتخمة الحالية في المعروض، وتراجع الأسعار، جعلا الأسواق تتجاهل إلى حد كبير الضربات العسكرية السابقة في مناطق أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط.
هذا التجاهل يرسل إشارة واضحة مفادها أن السوق بات أكثر مرونة، وأقل عرضة للذعر الجيوسياسي، مقارنة بعقود سابقة. وهو ما يمنح الإدارة الأمريكية مساحة أوسع لتشديد الضغوط دون الخشية من ارتفاعات حادة في الأسعار.
في هذا السياق، تتحول فنزويلا إلى حالة اختبار لقدرة واشنطن على استخدام أدوات القوة دون كلفة سوقية كبيرة، مستفيدة من توازنات جديدة فرضتها زيادة الإنتاج من مصادر متعددة، وتباطؤ الطلب العالمي.
لكن هذه المعادلة تبقى حساسة، إذ إن أي خطأ في الحسابات، أو توسع غير منضبط في التصعيد، قد يعيد المخاطر إلى السوق بسرعة، خاصة إذا تزامن مع صدمات أخرى.
الداخل الأمريكي: الجيش والاقتصاد في خطاب واحد
تصريحات ترامب حول فنزويلا جاءت متزامنة مع محاولة احتواء الضغوط الداخلية، عبر الإعلان عن “علاوة المحارب” للجيش، والدفاع عن سياساته الاقتصادية. وهذا الربط ليس عرضياً حسب قراءة بقش، بل يعكس استراتيجية خطابية تهدف إلى تعزيز صورة القوة والقدرة على الجمع بين الردع الخارجي والدعم الداخلي.
العلاوة العسكرية، رغم رمزيتها، تُظهر كيف تُستخدم أدوات الإنفاق والدفاع في سياق سياسي أوسع، يربط الأمن القومي بالاقتصاد، ويبرر الضغوط الخارجية تحت مظلة حماية المصالح الأمريكية.
في المقابل، حرص ترامب على تجنب فتح جبهة داخلية إضافية عبر ملف الرعاية الصحية، مؤكداً عدم نيته إلغاء قانون أوباما كير، في محاولة لتقليص المخاطر السياسية في عام انتخابي حساس.
هذا التوازن بين التصعيد الخارجي والتهدئة الداخلية يعكس إدراكاً بأن أي مواجهة مع فنزويلا، حتى لو بقيت محدودة، يجب أن تُدار دون إشعال اضطرابات داخلية أو اقتصادية.
ما يجري بين واشنطن وكاراكاس ليس مجرد تهديد عسكري، بل استخدام محسوب للنفط كأداة ضغط في لحظة مواتية للسوق. ترامب يستثمر فائض المعروض وتراجع الأسعار لرفع سقف المواجهة، دون دفع كلفة طاقية عالمية مرتفعة.
فنزويلا، في المقابل، تبدو محاصرة بين نظام معزول وقطاع نفطي منهك، في وقت لم تعد فيه الأسواق بحاجة ماسة لنفطها. أما الحرب، فتبقى خياراً نظرياً أكثر منها سيناريو وشيك، ما دام الحصار البحري يحقق الغرض بأقل كلفة. وفي ميزان الطاقة العالمي، الرسالة واضحة: من يمتلك مرونة السوق، يمتلك حرية القرار.


