الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

إعصار غلاء يجتاح عدن وما جاورها… أين السلطات من كل هذا العبث؟

الاقتصاد المحلي | خاص – بقش

يتساءل المواطن اليمني أسعد عبدالله (38 عاماً) عن كيف تغيَّر كل شيء في عدن، السلطات والظروف وقيمة العملة والأسعار، بينما لم يتغير “الراتب” ولم يرتفع سقفه وبقي وحيداً يصارع حُمَّى الكارثة الاقتصادية والمعيشية، عاجزاً عن مواجهة جوائح الغلاء.

يقول أسعد لـ”بقش”: “متوسط الراتب الحكومي يتراوح بين 60 و70 ألف ريال يمني، فما الذي يفعله رب أسرة مكونة من خمسة أو ستة أفراد بهذا الراتب وكيف يلبي احتياجات أسرته ومتطلبات تعليم وتغذية أبنائه؟ هذا الراتب لا يغطي حتى شراء دبَّتَي بترول، أو سلة غذائية شهرية، فضلاً عن احتياجات أخرى كفواتير الكهرباء والماء”. ويضيف: “لقد تغيرت حتى عدن نفسها وأصبحت عاصمة الدولة، بينما لم يتغير وضع الناس إلا إلى الأسوأ”.

وبات ارتفاع الأسعار كابوس اللحظة بالنسبة للمواطن اليمني، مع الانهيار المتسارع في قيمة العملة المحلية بمحافظات سلطة المجلس الرئاسي وحكومة عدن. إذ يجد المواطنون اليمنيون أنفسهم، من عدن حتى المهرة، أمام إعصار هادر من الجُرع السعرية اليومية، واقعين تحت وطأة غلاء خانق، ومدفوعات مفروضة بالريال السعودي، وجحيم معيشي، وحكومة غائبة وعاجزة عن توفير أبسط المطالب المشروعة، ورقابة مفقودة. وأمام كل ذلك، لا يستثني الغلاء أياً من المواد الغذائية والاستهلاكية، بما فيها المواد التي لا غنى عنها، مثل “رغيف الروتي”.

تراجع القدرة الشرائية على أبسط المتطلبات

ويشهد بيع رغيف الروتي، على سبيل المثال لا الحصر، تلاعبات من قِبل العديد من الأفران الشعبية والمخابز الآلية في عدد من مديريات عدن، وتغيب الرقابة الرسمية عن هذه الممارسات، بينما يتهم مواطنون الجهات المختصة بالتواطؤ. وبالنتيجة، يثير ذلك استياءً شعبياً واسعاً، باعتبار رغيف الروتي مادة أساسية لكافة المواطنين لا ينبغي المساس بها.

ووفقاً لمعلومات اطلع عليها مرصد “بقش”، فإن هناك أفراناً تبيع قرص الروتي الواحد بـ100 ريال (وزن 50 غراماً) مقارنة بالسعر السابق البالغ 70 ريالاً، بينما تبيعه مخابز آلية أخرى بسعر يصل إلى 125 ريالاً، في تغييبٍ تام لمعايير تحديد السعر والوزن. لذا تتزايد شكاوى المواطنين بشأن هذه التباينات السعرية غير المبررة بين المخابز، مطالبين مكتب الصناعة والتجارة بعدن وسائر الجهات المختصة بالتدخل لضبط الأسعار وفرض رقابة فاعلة وحقيقية لوقف استغلال الأزمة.

ومن جانبها كانت جمعية المخابز والأفران في عدن، قررت في شهر مايو الماضي رفع سعر قرص الروتي من سعره البالغ 100 ريال إلى 125 ريالاً، وقالت إن سبب ذلك ارتفاع أسعار المواد الخام وتكاليف الإنتاج (بما في ذلك الدقيق والزيت والوقود) وانهيار العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية. ويأتي ذلك فضلاً عن رفع أسعار سائر المخبوزات والمعجنات في السوق، محليةً أو مستوردة.

ليس الروتي وحده ما يعبّر عن أزمة الغلاء المعيشي، فهي أزمة شاملة تجمع كل ما يمكن شراؤه، من منتجات غذائية مستوردة ومحلية، وخضروات وفواكه وأسماك، ومشتقات نفطية وأجور نقل وفواتير كهرباء ومياه وغيرها من متطلبات الحياة الملحّة. ومن ذلك ارتفاع أسعار “الطماطم” مثلاً، فالمعلومات تشير إلى أن الطماطم سجلت قفزات خلال أيام قليلة، إلى أن بلغ سعر السلة الواحدة نحو 24 ألف ريال، ما يعادل ثمن تجهيز عدة وجبات لعائلة كاملة في عدة أيام.

وباتت بعض الأسر في عدن والمحافظات اليمنية تلجأ إلى التقشف والاكتفاء بتناول وجبة إلى وجبتين كحد أقصى في اليوم، نظراً لتكاليف المعيشة الباهظة وعدم وجود قيمة فعلية للرواتب (التي لا تُصرف بشكل منتظم شهرياً) تواكب ارتفاع الأسعار.

كما لم تَسلَم مياه الشرب من رفع الأسعار وسط هذا الصيف الحار، إذ ارتفعت أسعار المياه الصحية في عدن، وأرجعت جمعية مالكي محطات تحلية المياه الصحية هذا الارتفاع إلى أن تكلفة إنتاج المياه الصحية قفزت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، بسبب الاعتماد على معدات وفلاتر تُشترى بالدولار ويتم تجديدها بانتظام، إلى جانب ارتفاع أسعار مواد التحلية مثل الكلور، والاعتماد على المولدات الكهربائية العاملة بالديزل، مع محدودية تغطية الطاقة الشمسية وانقطاع الكهرباء الحكومية، فضلاً عن دفع محطات التحلية التزامات كبيرة كالضرائب ورسوم التراخيص والإيجارات وأجور العمال والصيانة والنقل.

من عدن إلى المهرة.. الغلاء ضعف المحافظات الأخرى

ينطبق الغلاء في عدن على مختلف المحافظات اليمنية، وصولاً إلى أقصى شرق اليمن، في محافظة المهرة. ففي هذه المحافظة، على سبيل الذكر، تشتد أيضاً تبعات التدهور الاقتصادي وانهيار الريال والأوضاع المعيشية، وسط توترات قبلية قائمة حالياً. ففي المهرة التي برزت كوجهة للعديد من تجار ومستوردي ومصدري المنتجات الزراعية من شمال اليمن خاصة، يشكو الناس من غلاء الأسعار للسواد الأعظم من السلع، التي يُفرض دفعُ قيمتها بالريال السعودي بدلاً من الريال اليمني. وبتواصُل مرصد “بقش” مع عدد من المواطنين في المهرة، أفاد المواطنون بأن الأسعار في المحافظة تبلغ ضعف تلك التي في المحافظات الأخرى، وحتى ضعف أسعار حضرموت المجاورة.

وبالريال السعودي يدفع المواطنون اضطرارياً ثمن مختلف السلع، من السلع الغذائية إلى الملابس والأدوات المنزلية، مع وجود فجوة بين مستوى الدخل والقدرة الشرائية، ويرى البعض أن ارتفاع الأسعار يعود إلى عدد من الأسباب، منها أن المهرة بعيدة وحدودية مما يجعل فترة وصول السلع إليها أطول، خصوصاً المنتجات الزراعية مثل الخضروات والفواكه القادمة من صنعاء وذمار وعدن وأبين، باعتبار أن المهرة محافظة غير زراعية، فيعكس التجار بُعد المسافات على أسعار المنتجات، ويستهلكها السكان بأسعارها المضاعفة البعيدة عن الرقابة.

أين الدولة؟

لسان حال المواطنين هو المطالبة بتوضيح الأمور: أين الدولة؟ لماذا تغيب عن المشهد وتترك المواطن يواجه مصيره بمفرده؟ وما دور السلطات الحكومية المختصة إزاء ارتفاع الأسعار والتلاعب بها، وما إسهامات الحكومة حتى الآن جراء انهيار الخدمات الأساسية، ولماذا تغيب الخطط الحكومية لضبط الأسعار أو تأمين أدنى احتياجات المواطنين من السلع بأسعار معقولة تواكب قدرتهم الشرائية المتآكلة؟

لا تجيب الحكومة رسمياً عن أيٍّ من هذه التساؤلات المشروعة والمطروحة في الشارع اليمني باستمرار، وبات التعاطي معها شعبياً بوصفها “حكومة مشلولة”. واستمراراً لمسلسل الفشل الحكومي، أُعلن مؤخراً عن مغادرة رئيس المجلس الرئاسي “رشاد العليمي” عدن إلى السعودية، لطلب الدعم السعودي والخليجي لما تسميها الحكومة “الإصلاحات الاقتصادية والخدمية”، ومساندة الحكومة في الإيفاء بالتزامات دفع رواتب الموظفين وتأمين السلع وتحسين وضع العملة المنهارة.

وبين حين وآخر، تكتفي الحكومة بالتصريح بأنها تعقد اجتماعات وزارية لمناقشة الأوضاع الاقتصادية والخدمية، والعمل على تدخلات عاجلة للحد من انهيار الصرف، مع التعبير عن أملها في الدعم من المملكة العربية السعودية والإمارات.

ولا تتعدى التحركات حدود الاجتماعات المغلقة المنشور عنها في المنصات الرسمية، وخلال هذه الاجتماعات تُقر الحكومة عقد اجتماعات أخرى لمباحثة “تحقيق الاستقرار الاقتصادي” و”وقف تراجع العملة”، مع إقرار الحكومة بتفشي ممارسات وعمليات الفساد، وإرهاق الاقتصاد الوطني عبر النفقات الهائلة للحكومة، التي تؤثر بدورها سلباً على الالتزامات الحتمية وعلى رأسها انتظام صرف رواتب الموظفين وتوفير الخدمات.

سليم مبارك، محلل اقتصادي في عدن، قال إن ما يحدث من فشل حكومي وتدهور معيشي وارتفاع جنوني للأسعار في مختلف المحافظات يعزل المواطن البسيط عن احتياجاته الضرورية ويزيد من تردي قدرته الشرائية، ويؤكد انعدام ثقة المواطن في حكومة المناصفة وقدراتها، في الوقت الذي يقوم فيه بتسديد كل ما عليه من ضرائب ومدفوعات، بينما لا يجد أي تحسين في الوضع العام والخدمات العامة الأساسية كالكهرباء والمياه.

ويذكر مبارك أن ارتفاع الأسعار ناجم بالدرجة الأولى عن انهيار سعر الصرف حتى تخطى عتبة 2,900 ريال، قائلاً إنه سيصل إلى مستوى 3,000 ريال في أي لحظة، وهو ما سينعكس أيضاً على أسعار الوقود التي ستشهد ارتفاعاً مقبلاً من مستوى 38,000 ريال الحالي لصفيحة البنزين، ويتابع: “وهذا الانهيار يترتب على الفشل الكلي لسياسات الحكومة وإدارة البنك المركزي بعدن في ضبط السوق وعمليات المضاربة من قِبل الهوامير الذي لا يجرؤ البنك على إيقافهم عند حدهم، فضلاً عن الفشل في إخضاع 147 مؤسسة حكومية إيرادية للرقابة، وعدم معرفة البنك أين تذهب إيراداتها كما قال محافظ البنك”.

ويشير مبارك إلى أن الريال اليمني في مناطق الحكومة فقد أكثر من 26% من قيمته خلال عام 2024 وحده، وأكثر من 70% من قيمته خلال السنوات الخمس الماضية، في واحدة من أسوأ أزمات العملة اليمنية في التاريخ، وبوصول سعر الصرف إلى مستوى 3,000 ريال فإنه يدق جرس إنذار خطير، إذ سيزيد انعكاساً بشكل مباشر على كافة الأسعار بشكل كارثي أكبر، مضيفاً أن ارتفاع الأسعار ناجم أيضاً عن تردي حركة الإنتاج، وخصوصاً الإنتاج الزراعي.

وبينما تغيب الحكومة عن الأوضاع المأساوية للأسر اليمنية، تصاعدت عدة ظواهر في عدن ومختلف المحافظات اليمنية وفق تتبُّع مرصد “بقش” لتفاصيل المشهد الاقتصادي اليمني، مثل ظاهرة بيع الأثاث والممتلكات لتوفير تكاليف المعيشة، وتفاقُم الديون الشخصية وما ينجم عنها من قضايا ومشاكل اجتماعية واقتصادية، ومظاهر النصب والاحتيال وعمليات السرقة وغيرها، وكل ذلك يُضاف إلى الظواهر التاريخية القائمة بالفعل في اليمن المتمثلة في الفقر (+80% من السكان) والبطالة (~70%) خاصة في أوساط الشباب.

يبقى السؤال المطروح شعبياً: “أين الحكومة من كل هذا العبث؟”، لكن حتى إشعار آخر يبدو العبث فعلاً حكومياً بالأساس، ولا مؤشرات حتى الآن على تحسين الوضع أو العمل الجاد على انتشال المواطنين من خندق الغلاء المعيشي، أو حتى فرض رقابة حقيقية على الأسعار والأسواق، لانشغال السلطات بأمور أخرى مثل تحصيل الرسوم والجبايات أكثر من أي شيء آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش