الاقتصاد العربي
أخر الأخبار

مفارقة الاكتفاء الذاتي في السعودية.. لماذا فشل الإنتاج الوفير والتوطين الغذائي في خفض الأسعار؟

الاقتصاد العربي |بقش

تبدو أرقام الاكتفاء الغذائي في السعودية، للوهلة الأولى، إنجازاً استراتيجياً لافتاً، إذ تجاوز الإنتاج المحلي في عدد من السلع الأساسية حاجز الحاجة الفعلية للسوق، مسجلاً نسباً تفوق 100% في منتجات حيوية مثل الألبان والبيض والروبيان وبعض الخضروات والفواكه وفق اطلاع “بقش”. غير أن هذا الإنجاز الرقمي يصطدم بواقع معيشي مختلف تماماً، حيث لا يزال المستهلك يواجه مستويات أسعار مرتفعة، تكاد تفصل بينه وبين ثمار هذا التوسع الإنتاجي.

هذه المفارقة لا تعكس خللاً عابراً، بل تكشف أزمة أعمق في النموذج الاقتصادي للغذاء، حيث تحوّل الاكتفاء الذاتي إلى هدف قائم بذاته، منفصل عن وظيفته الأساسية المتمثلة في تخفيف العبء المالي عن الأسر. فحين لا يترجم فائض الإنتاج إلى انخفاض فعلي في الأسعار، يصبح الاكتفاء قيمة استراتيجية مجردة، لا أثر مباشراً لها على الأمن المعيشي.

المشكلة الأساسية أن السوق لا تُدار بمنطق الوفرة، بل بمنطق التكلفة، وهو منطق لا يعترف بحجم الإنتاج بقدر ما يركز على كلفة المدخلات، وسلاسل التوزيع، وهوامش الوسطاء. وفي هذه البيئة، يفقد الاكتفاء الذاتي قدرته على لعب دوره الطبيعي كأداة لضبط الأسعار.

وعليه، فإن السؤال لم يعد: هل تحقق الاكتفاء؟ بل: ما جدوى الاكتفاء إذا ظل الغذاء سلعة مرتفعة الكلفة في سوق يفترض أنه مكتفٍ ذاتياً؟

تكلفة الإنتاج: الاكتفاء المحلي بأسعار عالمية

رغم محلية الإنتاج، لا يزال تسعير الغذاء في السعودية أسير منظومة تكلفة مرتبطة بالخارج وفق تتبُّع بقش. فغالبية مدخلات الإنتاج الزراعي والغذائي، من أعلاف وأسمدة وبذور وتقنيات زراعية ومعدات تبريد، تخضع لتسعير عالمي، ما يجعل تكلفة الإنتاج المحلية عرضة للتقلبات نفسها التي تواجهها الدول المستوردة للغذاء.

هذا الارتباط الهيكلي يعني أن أي صدمة في أسعار الطاقة أو النقل أو السلع الزراعية عالمياً تنتقل مباشرة إلى السوق المحلية، حتى لو كان المنتج النهائي مزروعاً أو مصنعاً داخل البلاد. وهنا يفقد الاكتفاء الذاتي إحدى أهم وظائفه، وهي العزل الجزئي عن تقلبات الخارج.

تزداد المشكلة تعقيداً في بيئة صحراوية عالية الكلفة، تعتمد على الزراعة المحمية والتحلية والري الذكي، وهي تقنيات ضرورية للاستدامة، لكنها ترفع تكلفة الوحدة الإنتاجية إلى مستويات تجعل المنتج المحلي غير قادر على لعب دور «البديل الأرخص».

وبذلك، يتحول الاكتفاء الغذائي من وسيلة لخفض الأسعار إلى عملية إنتاج مكلفة، تضمن التوفر والاستمرارية، لكنها لا تضمن عدالة السعر ولا تخفيف العبء عن المستهلك.

سلاسل التوريد: الفاقد والوسطاء يبتلعون الوفرة

حتى بعد تجاوز مرحلة الإنتاج، لا يصل الغذاء إلى المستهلك بكفاءة. إذ تعاني سلاسل التوريد من اختلالات مزمنة، أبرزها الفاقد الكبير بعد الحصاد نتيجة ضعف التخزين البارد، وطول مسارات النقل، وتعدد حلقات الوساطة بين المنتج ونقطة البيع النهائية.

هذا الفاقد لا يمثل خسارة إنتاجية فقط، بل يعيد تشكيل السوق عبر تقليص العرض الفعلي، ما يسمح بخلق نقص مصطنع رغم وفرة الإنتاج. وفي هذه الحالة، تصبح الأسعار أقل ارتباطاً بحجم المعروض وأكثر ارتباطاً بقدرة الوسطاء على التحكم في التدفقات.

النتيجة أن جزءاً معتبراً من فائض الإنتاج لا يعمل لصالح السوق المحلية، بل يُهدر أو يُصدّر أو يُستنزف قبل أن يصل إلى المستهلك. ومع كل حلقة إضافية في سلسلة التوزيع، يُضاف هامش ربح جديد، يُحمَّل بالكامل على السعر النهائي.

في هذا السياق، يصبح الاكتفاء الغذائي غير قادر على أداء وظيفته الأساسية، لأن الوفرة تُستهلك داخل النظام نفسه قبل أن تصل إلى المواطن.

بنية السوق: وفرة بلا منافسة

تُظهر بنية السوق الغذائية مستويات مرتفعة من التركز في بعض القطاعات حسب قراءة بقش، حيث تسيطر شركات محدودة على الإنتاج أو التوزيع أو التجزئة، ما يضعف المنافسة ويحد من انتقال أي انخفاض محتمل في التكلفة إلى المستهلك.

في الأسواق ذات المنافسة المحدودة، لا تُخفض الأسعار تلقائياً عند تحسن ظروف العرض، بل تبقى عند مستويات مرتفعة طالما لم تتعرض لهزات تنظيمية أو تنافسية حقيقية. وهكذا، يتحول الاكتفاء إلى رقم إحصائي لا يملك قوة ضغط على التسعير.

يزداد هذا الخلل مع نمو الطلب الناتج عن التوسع السكاني، وازدهار قطاعات الاستهلاك خارج المنازل، ما يمنح السوق قدرة دائمة على امتصاص الإنتاج دون الحاجة إلى تعديل الأسعار نزولاً.

وبذلك، يفشل الاكتفاء الذاتي في لعب دوره كأداة تصحيح للسوق، ويتحول إلى عنصر محايد لا يغير موازين القوة بين المنتج والمستهلك.

وتكشف التجربة السعودية أن الاكتفاء الغذائي، في حد ذاته، لا يشكل ضمانة لتحسين مستوى المعيشة، ولا يكفي لخفض أسعار الغذاء ما لم يُرافق بإصلاحات هيكلية عميقة. فحين تبقى التكلفة مرتفعة، وسلاسل التوريد غير كفوءة، والمنافسة محدودة، يصبح الاكتفاء مجرد إنجاز إنتاجي بلا مردود اجتماعي.

الأخطر أن استمرار هذا الوضع قد يفرغ مفهوم الأمن الغذائي من مضمونه الحقيقي، ليقتصر على ضمان التوفر فقط، دون ضمان القدرة على الوصول. وفي اقتصاد يتسم بارتفاع كلفة المعيشة، تصبح هذه الفجوة مصدر ضغط دائم على الأسر، حتى في ظل وفرة السلع.

من هذا المنظور، يمكن القول إن لا فائدة اقتصادية حقيقية من الاكتفاء الغذائي إذا ظل الغذاء مكلفاً. فالأمن الغذائي لا يُقاس بما يُنتج، بل بما يستطيع المواطن شراءه دون استنزاف دخله.

وما لم تتحول الوفرة إلى أداة لكبح الأسعار، سيبقى الاكتفاء الذاتي إنجازاً ناقصاً، يحقق الاستقرار الكمي، لكنه يعجز عن تحقيق العدالة السعرية، وهي جوهر أي سياسة غذائية ناجحة.

زر الذهاب إلى الأعلى