ملايين الدولارات لمسؤولي الخارج تُهدد مصداقية بنك عدن المركزي في الإصلاحات الاقتصادية

الاقتصاد اليمني | بقش
لم يقدم القابعون في الخارج لليمن ما يؤهلهم للحصول على راتب، فكيف بحوافز دولارية مجزية. هذا لسان حال النشطاء اليمنيين حالياً على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يشنون هجمة واسعة على حكومة عدن ومسؤوليها في الخارج الذين فشلوا في تقديم شيء للبلاد، بينما يتسلمون رواتب وحوافز وإعاشات منتظمة بالعملة الصعبة دون أسباب منطقية سوى أنهم محسوبون على “الشرعية”.
هذا التداول الواسع لما وصفه الناشطون بـ”الفضيحة المالية”، جاء بعد أن نشر الصحفي فتحي بن لزرق عن صرف مبلغ قدره 11 مليون دولار وتحويله بنكياً إلى حسابات المسؤولين الحكوميين المقيمين في الخارج تحت بند الإعاشة الشهرية “للمؤلفة قلوبهم” حد تعبيره الساخر، وأشار إلى أنها (دفعة أولى).
وفق اطلاع بقش، رأى بن لزرق أن من المعيب أن يتم تحويل كل هذه الأموال إلى الخارج، في حين يتم الضغط منذ أسابيع على المعلم الذي يبلغ راتبه 60 ألف ريال ولم يُصرف منذ ثلاثة أشهر، للعودة إلى قاعات التدريس، ومثله الآلاف من جنود الجيش والأمن الذين ينتظرون منذ أشهر مرتبهم اليتيم، مؤكداً أن ما يحدث خزي وعار.
وتجري أحاديث عن توقيف العمل حالياً بكشف الإعاشة الشهرية الذي يضم منتسبين إلى المجلس الرئاسي والحكومة ونواب وزراء ومستشارين ومنتسبين إلى مجلس النواب وإعلاميين وغيرهم.
وحصل بقش على معلومات غير مؤكدة رسمياً تفيد بأن رئيس وزراء حكومة عدن أجرى تغييرات على الكشف، وأنه لا نية لإيقاف عملية الصرف بشكل كامل.
الغريب هو التعامل مع الأمر (تحويل ملايين الدولارات إلى مسؤولي الخارج) على أنه نبأ جديد، أو غير معقول، إذ استمر ضخ أموال الإعاشة بالعملة الصعبة لمسؤولي الخارج حتى بعد توقف تصدير النفط في أكتوبر 2022. وهناك اليوم من قال للمتفاعلين مع ما نشره الصحفي بن لزرق: لقد كشفنا عن ذلك من قبل.
باعوم: هذا ليس “اكتشاف العصر”.. واللص يبقى لصاً
فادي باعوم، عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي، قال اليوم الثلاثاء، على منصة إكس، إنه منذ عام كامل يصرّح بملف الإعاشة بالدولار، وكتبت عنه أيضاً صحيفة الأيام، لكن الغريب أن الملف اليوم يُلمَّع وكأنه “اكتشاف العصر” وفقاً لباعوم.
وأضاف: “المعادلة واضحة: اللص يبقى لصاً، فلا داعي لانتقاء ملف دون آخر، وما يُطرح اليوم ليس سوى رأس جبل الجليد، فستتكشف ملفات أكثر خطورة”.
دعا باعوم إلى أن تُفتح “كل الملفات، ولا نكتفي بترند على فضيحة فساد ينتهي كخُطبة الجمعة: الكلام هو الكلام والإصلاح غائب!”. وتابع: “الإصلاح الحقيقي لا يكون بترقيع الأضرار فقط، بل بإعادة النظر في كثير من المسؤولين المتخمين بالفساد وسوء الإدارة، فليس من المعقول أن تكون هناك إصلاحات بلا حساب ولا عقاب، وبلا تغيير جذري لكل من ثبت تورطه”.
ضربة مباشرة لجهود المركزي
الخبير الاقتصادي أحمد الحمادي قال في تصريح خاص لـ”بقش”، إن قضية “الإعاشة بالدولار” للمسؤولين الحكوميين المقيمين في الخارج تمثل “ضربة مباشرة” لجهود بنك عدن المركزي، الذي يحاول خلال الأشهر الماضية استعادة السيطرة على سوق الصرف وضبط الإيرادات العامة.
وأضاف الحمادي أن “استمرار صرف ملايين الدولارات شهرياً لمسؤولين لا يقومون بأي مهام فعلية داخل البلاد، يتناقض تماماً مع سياسات التقشف والإصلاحات التي يعلنها البنك المركزي”، مشيراً إلى أن هذه الممارسات “تسحب من رصيد الثقة القليل المتبقي لدى المواطنين والمستثمرين في أي جدية للإصلاح الاقتصادي”.
وأوضح أن “الإصرار على تمويل هذه الكشوفات بالدولار والريال السعودي، في وقت يعاني فيه المعلمون والجنود من انقطاع الرواتب لعدة أشهر، يجعل الحديث عن ضبط السيولة النقدية أو تحسين الإيرادات أقرب إلى الشعار منه إلى السياسة الفعلية”.
وتابع الحمادي: “بدلاً من أن تركز الحكومة على تعزيز مواردها عبر ضبط الإيرادات ومكافحة التهريب والفساد وتحسين إدارة القطاع النفطي ومشتقاته، تستمر في هدر العملة الصعبة على بند لا يخدم المصلحة العامة”.
وأكد أن هذا الملف “لا يقتصر على الهدر المالي، بل يضعف قدرة البنك المركزي على فرض أدواته النقدية”، موضحاً أن “أي سياسة للرقابة على السوق أو استقرار سعر العملة ستفقد مصداقيتها إذا واصل المسؤولون الكبار استنزاف ما تبقى من النقد الأجنبي في شكل إعاشات وحوافز شخصية”.
واختتم تصريحاته بالقول إن “ما يحدث اليوم يزرع حالة من الإحباط لدى المواطنين الذين استبشروا بتحركات البنك المركزي الأخيرة، لكنه في المقابل يكشف أن قرار الإصلاح لا يزال انتقائياً، وأن الإرادة الحقيقية للتغيير الجذري غائبة”.
حالة الإحباط: بأي وجه حق؟
حالة الإحباط هذه في تصاعد، فبينما يئن المواطن اليمني تحت ثقل الظروف الاقتصادية الخانقة وعدم صرف الرواتب لأشهر، يستمر مسلسل الهدر المالي في أروقة الحكومة. فهذه الإعاشة التي تصل إلى آلاف الدولارات لكل مسؤول، تُصرف بانتظام من المال العام، والمفارقة أن الموظفين في الداخل يشكون من تدني قيمة الرواتب كما أسلفنا، بشكل لا يواكب متطلبات الحياة وغلاء الأسعار وإن أُعلن مؤخراً عن انخفاض بعضها، إذ تبقى الأسعار المخفضة أيضاً فوق القدرة الشرائية للكثير من المواطنين.
ويتساءل المواطنون: بأي وجه يستلم المسؤولون إعاشة بالدولار، وسط عجز في إدارة وتوفير الخدمات الأساسية؟ وما هي الأدوار التي يقوم بها المسؤولون في الخارج من أجل “استعادة الدولة”؟
المراقبون ذهبوا إلى اعتبار صرف هذه المخصصات الدولارية مخالفة صريحة للقانون، فثمة ما لا يقل عن 2000 من القيادات المتواجدة في الخارج يتسلمون هذه المبالغ الشهرية، في الوقت الذي تقول فيه الحكومة إنها عاجزة عن صرف رواتب الجنود ومنتسبي الجيش والمعلمين داخل البلاد.
هذا الجدل يأتي في الوقت الذي تزداد فيه معاناة المواطنين وتتفاقم فيه الاختلالات الإدارية والعبث بالمال العام، وتتسع الفجوة بين المجتمع والطبقة الحاكمة، وهو ما يركز عليه المواطنون حالياً، إذ يدعون إلى فتح تحقيق مستقل لمراجعة هذه الكشوف ومحاسبة المسؤولين عن تمريرها، وربط أي مستحقات مستقبلية بوجود المسؤولين داخل البلاد وممارستهم لأعمالهم من الداخل لا من الخارج.