من كوريا إلى كمبوديا ودبي: كيف أصبحت العملات المشفرة الغطاء المثالي لغسيل الأموال

تقارير | بقش
تحولت صناعة العملات المشفرة خلال العامين الماضيين من قطاع تجريبي عالي المخاطر إلى فضاء مالي ضخم يتدفق عبره كل شيء: الاستثمارات المؤسسية، الأموال السياسية، والسيولة القادمة من الظل. وفي الوقت الذي يُسوّق فيه اللاعبون الكبار للعملات الرقمية باعتبارها “ثورة اقتصادية” وركيزة لاقتصاد المستقبل، تكشف تحقيقات دولية أن هذه الصناعة باتت أيضاً أحد أكبر الجسور التي تعبر خلالها شبكات الاحتيال والجرائم العابرة للحدود.
وجاءت نتائج تحقيق مشترك للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين و”نيويورك تايمز” لتسجّل صدمة جديدة في سجل هذا القطاع، إذ بيّنت أن ما لا يقل عن 28 مليار دولار من الأموال المرتبطة بعمليات احتيال وجماعات إجرامية عبر العالم دخلت إلى منصات تداول كبرى وفق اطلاع بقش، معظمها مسجّل قانونياً ويخضع لرقابة اسمية. تتبّع التحقيق تحركات الأموال من كوريا الشمالية حتى ميانمار ومينيسوتا، في شبكة مالية تستخدم الأنظمة الرقمية كغطاء للتعقيد والإخفاء.
وتزامن هذا الانفجار من الأموال المشبوهة مع الانخراط السياسي المباشر للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عالم الكريبتو، وإعلانه تحويل الولايات المتحدة إلى “عاصمة العملات المشفرة”، إضافة إلى إطلاق مشروعه الخاص. ومع انسحاب إدارته من حملات التضييق التنظيمية، تبدو بيئة الكريبتو أكثر انفتاحاً من أي وقت سابق أمام حركة رؤوس الأموال القذرة.
ورغم ادعاءات المنصات الكبرى بأنها “آمنة” وتخضع لمراقبة مشددة، فإن التحقيقات تكشف فجوة عميقة بين الخطاب الدعائي والواقع. فبين أنظمة تحقق هشّة، وعلاقات مالية متشابكة، وتراخٍ في المحاسبة، تحول القطاع إلى مظلة ضخمة تغطي أنشطة مالية معتمة، يصعب ـ وربما يستحيل ـ تتبع أطرافها بالكامل.
تدفقات مشبوهة تكشف عالماً موازياً داخل منصات الكريبتو
أظهرت البيانات التي جمعها الفريق الاستقصائي الدولي وطالعها بقش أن منصات التداول الكبرى لم تعد مجرد بنية تحتية للتداول، بل تحولت إلى بوابات ضخمة لعبور الأموال غير القانونية. فمنصات مثل Binance و OKX و Bybit تستقبل سنوياً مئات ملايين الدولارات من مصادر مرتبطة بقراصنة، عصابات احتيال، جماعات الابتزاز، وشبكات غسيل الأموال.
وتتصدر Binance، أضخم منصة تداول في العالم، لائحة المنصات التي استقبلت الأموال القذرة، إذ استقبلت وحدها ما يفوق 400 مليون دولار قادمة من مجموعة Huione الكمبودية المصنّفة أمريكياً ككيان إجرامي، إضافة إلى تدفقات أخرى من قراصنة كوريين شماليين استخدموا المنصة لغسل قرابة 900 مليون دولار. هذا الحجم من العمليات يؤكد أن بنية الكريبتو أصبحت ملاذاً مثالياً لمن يريد إخفاء أثره المالي.
كما أن ثماني منصات أخرى دخلت قائمة المتورطين، بينها OKX، التي توسّع نشاطها داخل الولايات المتحدة. ويُشير خبراء الجرائم الرقمية إلى أن سلطات إنفاذ القانون عاجزة عملياً عن ملاحقة هذا الكم الهائل من الأنشطة، خاصة أن الحسابات المشبوهة تُنشأ وتُغلق في ثوانٍ وتنتقل عبر آلاف المحفظات الرقمية قبل أن تصل إلى وجهتها الأخيرة.
ومع أن منصات التداول تدّعي أن لديها أنظمة مراقبة، فإن التحقيقات تستمر في كشف ثغرات ضخمة تُظهر أن كثيراً من هذه الشركات تفضّل الاستفادة من رسوم التداول، ولو كانت الأموال قادمة من الظل، على التضحية بجزء من أرباحها لفرض امتثال أكثر صرامة.
من اقتصاد السوق السوداء إلى المشهد المالي الرسمي
في بداياتها، كانت العملات الرقمية أداة مثالية للتهرب من الرقابة وممارسة أنشطة ممنوعة حسب قراءة بقش. فقد استخدمتها الأسواق السوداء لبيع المخدرات والخدمات المحظورة، وكانت السرية المصاحبة لها جزءاً من جاذبيتها. لكن الصناعة نمت بشكل هائل، وتحولت إلى مسار رسمي تتدفق عبره مليارات الدولارات يومياً.
ومع هذا الانتقال، لم تختفِ الجذور الأولى، بل تضاعفت قدرتها على العمل داخل البنية الجديدة. إذ تُظهر السجلات أن جزءاً من الأموال غير القانونية يمر حالياً عبر المنصات نفسها التي تستقبل استثمارات من بنوك “وول ستريت” وشركات التجارة الإلكترونية وشركات رأس المال المغامر. المشهد بات خليطاً من السيولة النظيفة والسيولة القذرة، يصعب فصلها دون أدوات رقابية متقدمة.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك، اعتراف Binance عام 2023 بأنها خالفت إجراءات مكافحة غسل الأموال، وقبولها دفع غرامة هائلة قدرها 4.3 مليارات دولار بعد الكشف عن تمرير أموال لجماعات مثل “حماس” و“القاعدة”. ورغم التعهدات بالالتزام، لم تتوقف تدفقات الأموال غير القانونية نحو الشركة.
ورغم إعلان المنصات أنها أصبحت “غير جاذبة للمجرمين”، تثبت الوقائع عكس ذلك. فالطبيعة اللامركزية للقطاع، وكثرة المنصات العابرة للحدود، تجعل من السهل التحرك بين منصة وأخرى دون ترك أثر واضح، الأمر الذي يزيد تعقيد الرقابة ويحوّل الكريبتو إلى مساحة مثالية للتهرب المالي والجريمة المنظمة.
دخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قطاع الكريبتو بقوة خلال حملته الانتخابية وما بعدها، محولاً العملات المشفرة إلى نشاط اقتصادي تصفه بعض وسائل الإعلام بأنه “محور نفوذ اقتصادي وسياسي جديد”. فقد أطلق ترامب مع عائلته شركة World Liberty Financial التي قادت صفقات بمليارات الدولارات، بينها صفقة ضخمة مع Binance.
وساهمت سياسات ترامب في تخفيف الضغط على المنصات الكبرى، إذ أوقفت إدارته الفريق المتخصص في وزارة العدل المسؤول عن التحقيق في الجرائم الرقمية، مبررة ذلك بأن على المدعين “التركيز على الإرهابيين وتجار المخدرات”، وليس على الشركات التي يستخدمها هؤلاء لغسل الأموال. هذا التراجع الرقابي فتح الباب أمام تدفقات أكبر من الأموال القذرة.
كما منح ترامب عفواً مؤسس Binance، شانغبينغ تشاو، الذي قضى حكماً بالسجن بعد تسوية قانونية وفق اطلاع بقش. هذه الخطوة أرسلت إشارة قوية لقطاع الكريبتو بأن الإدارة الجديدة لن تتعامل بصرامة مع المخالفات التنظيمية، ما شجع المنصات على التوسع دون خوف من الملاحقة.
وحسب مصادر مطلعة، فإن فريق ترامب نفسه ينظر للكريبتو باعتباره “مستقبلاً اقتصادياً للأمريكيين” ووسيلة لتعزيز النفوذ الأمريكي عالمياً، وهو ما يتناقض مع تحذيرات المؤسسات المالية من تحول القطاع إلى بوابة للجريمة المنظمة، خصوصاً مع غياب أنظمة امتثال قوية.
صناعة تحويل الكريبتو إلى نقد… اقتصاد ظلّ ينمو بلا رقيب
أحد أخطر الجوانب التي كشفها التحقيق يتعلق بصناعة تحويل العملات الرقمية إلى نقود (Crypto-to-Cash)، وهي شبكات تعمل في كواليس المدن الكبرى من كييف إلى هونغ كونغ ودبي، وتستخدمها المجموعات الإجرامية كمرحلة أخيرة لتبييض الأموال.
تُظهر البيانات أن هذه المكاتب تعاملت مع أكثر من 2.5 مليار دولار خلال عام واحد في هونغ كونغ وحدها. وقد استقبلت منصات مثل Binance وOKX وBybit ما يعادل 531 مليون دولار من هذه المتاجر. عمليات التحويل تتم في دقائق، دون وثائق، ودون أي تدقيق في الهوية، ما يجعلها واحدة من أهم حلقات غسيل الأموال عالمياً.
وفي تجربة ميدانية، تمكن مراسل من إرسال 1200 دولار من العملات الرقمية إلى مكتب في كييف، ليحصل على النقود مباشرة دون إيصال أو تسجيل، فيما تختفي المحادثات من تطبيقات المراسلة فوراً. هذا النموذج يتكرر في دبي أيضاً، حيث يتم تبادل آلاف الدولارات يومياً خارج أي نظام مالي رسمي.
وتتضاعف خطورة هذه المكاتب عندما ترتبط بحسابات تستقبل ملايين الدولارات أسبوعياً، بعضها يأتي من منصات مصنّفة عالمياً كشركات امتثال، ما يجعلها شريكاً غير مباشر في تنشيط الاقتصاد الموازي للجريمة المنظمة.
ما كشفه التحقيق لا يشير إلى “تجاوزات محدودة”، بل إلى بنية مالية عالمية موازية تتشكل داخل قطاع الكريبتو، تتقاطع فيها الجريمة المنظمة، والسياسة، والشركات الكبرى. هذه المنظومة لا تهدد فقط ثقة المستثمرين، بل تضرب القدرة العالمية على مكافحة غسل الأموال وتمويل العمليات غير القانونية.
اقتصادياً، يمثل تدفق الأموال القذرة إلى المنصات الكبرى خطراً مباشراً على استقرار الأسواق، لأنه يعيد ضخ السيولة المشبوهة داخل النظام المالي، ويخلق فقاعات في الأصول، ويزيد المخاطر النظامية على البنوك وصناديق الاستثمار. وفي عالم يزداد اعتماداً على التكنولوجيا المالية، لا يمكن تجاهل أن أي صدمة في قطاع الكريبتو قد تتحول إلى أزمة أوسع في الأسواق التقليدية.
اليوم، يقف العالم أمام معادلة حساسة: إما بناء نظام رقابي دولي قادر على ضبط هذا القطاع سريعاً، أو السماح بتحول الكريبتو إلى اقتصاد ظلّ عالمي، تتحكم فيه شبكات الاحتيال أكثر مما تتحكم فيه المؤسسات المالية الحقيقية.


