موانئ تركيا في قلب معركة العقوبات: كيف يتدفق الوقود الروسي إلى أوروبا عبر “الممر الخلفي”؟

الاقتصاد العالمي | بقش
رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على فرض الغرب حزمة واسعة من العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، لا تزال صادرات النفط ومشتقاته تجد طريقها إلى الأسواق الأوروبية، ولكن عبر مسارات ملتوية لا تمر مباشرة من الموانئ الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي. في هذا السياق، برزت الموانئ التركية بوصفها إحدى أهم نقاط العبور البديلة التي تثير قلق بروكسل، وتدفعها اليوم إلى دراسة خيارات عقابية غير مسبوقة قد تطال البنية التحتية اللوجستية نفسها، لا مجرد الشركات أو السفن.
المفارقة أن تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، تحولت عملياً إلى عقدة مركزية في شبكة إعادة توجيه النفط الروسي، مستفيدة من موقفها السياسي الرافض للانضمام إلى نظام العقوبات الغربية. هذا الموقف، وإن كان قانونياً من منظور أنقرة، وضعها في موقع حساس بين التزاماتها الأطلسية ومصالحها الاقتصادية المتشابكة مع موسكو.
وبحسب تقارير إعلامية غربية، فإن الاتحاد الأوروبي بات ينظر إلى بعض الموانئ ومحطات التخزين التركية باعتبارها “منافذ خلفية” تسمح بمرور الوقود الروسي إلى القارة بعد إعادة تصنيفه أو مزجه أو إعادة تصديره، بما يصعّب إثبات مصدره الأصلي ويُفرغ العقوبات من مضمونها العملي.
هذه التطورات تعكس فشلاً جزئياً في أحد أهم أهداف العقوبات الغربية، وهو تجفيف عائدات الطاقة الروسية التي تشكل شرياناً مالياً أساسياً للاقتصاد الروسي ولتمويل الحرب في أوكرانيا.
من الحظر إلى الالتفاف: كيف تغيّر مسار النفط بعد 2022؟
عندما فرض الاتحاد الأوروبي في فبراير 2023 حظراً شاملاً على استيراد المنتجات النفطية الروسية المكررة، بدا للوهلة الأولى أن أحد أكبر أبواب العائدات الروسية قد أُغلق. غير أن الواقع سرعان ما كشف عن إعادة رسم لخريطة التدفقات، حيث تحولت الناقلات الروسية بكثافة نحو الموانئ التركية.
محطات تخزين في مدن ساحلية مثل مرسين وعلى بحر مرمرة، التي كانت حتى وقت قريب منشآت هامشية في حركة تجارة الطاقة العالمية، أصبحت فجأة نقاط استقبال منتظمة لعشرات الآلاف من البراميل القادمة مباشرة من روسيا. وبعد فترات تخزين قصيرة، تغادر كميات مماثلة متجهة إلى دول في الاتحاد الأوروبي.
اللافت أن هذا التحول لم يكن تدريجياً، بل حدث فور دخول العقوبات حيز التنفيذ، ما يشير إلى استعداد مسبق لشبكة الوسطاء وشركات النقل لاستيعاب الصدمة وإعادة توجيه التدفقات بسرعة عالية.
وبينما تؤكد الشركات المشغلة لمحطات التخزين أن دورها يقتصر على تقديم خدمات لوجستية، تُظهر بيانات تتبع السفن والتجارة أن حجم الصادرات من هذه المنشآت إلى أوروبا يفوق بكثير وارداتها من مصادر غير روسية، ما يعزز فرضية أن جزءاً كبيراً من الوقود المصدّر يحمل في طياته منشأ روسياً غير معلن.
تركيا بين القانون والسياسة: عقدة العقوبات المعقّدة
من الناحية القانونية، لا تنتهك تركيا أي التزامات دولية بشرائها أو تخزينها أو إعادة تصديرها للنفط الروسي، طالما أنها ليست طرفاً في نظام العقوبات الغربية. هذا الواقع يمنح أنقرة مساحة مناورة واسعة، لكنه في الوقت نفسه يضع الاتحاد الأوروبي أمام معضلة سياسية شديدة الحساسية.
استهداف الموانئ أو البنية التحتية التركية بالعقوبات قد يسهّل نظرياً تطبيق القيود على تدفقات النفط الروسي، لكنه يحمل في طياته مخاطر استراتيجية، أبرزها توتير العلاقات مع شريك أطلسي محوري في ملفات أمنية إقليمية معقدة.
وتشير تسريبات أوروبية إلى أن التحقيقات تواجه عقبة رئيسية تتمثل في محدودية التعاون التركي، إذ إن تتبع تدفقات الوقود داخل شبكات التخزين يتطلب وصولاً مباشراً إلى بيانات الخزانات وحركة المزج وإعادة التصدير، وهو ما لم توافق أنقرة على فتحه حتى الآن.
هذا الغموض التشغيلي جعل من الصعب على أجهزة مكافحة الاحتيال الأوروبية تقديم أدلة قاطعة تُثبت أن الوقود الروسي الداخل إلى تركيا هو نفسه الذي يغادرها باتجاه الاتحاد الأوروبي، ما يعقّد مسار أي إجراء قانوني صارم.
بحر مرمرة… القلب النابض لتجارة الوقود “الرمادية”
إلى جانب مرسين، برزت منشآت التخزين على بحر مرمرة بوصفها الأكثر نشاطاً في تداول المنتجات النفطية الروسية المكررة. وتشير بيانات الشحن إلى أن هذه المنطقة تحولت إلى واحدة من أكثر نقاط العبور ازدحاماً عالمياً لهذا النوع من الوقود منذ بدء العقوبات.
خلال فترة وجيزة، مر عبر هذه المنشآت وقود بقيمة تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، وكانت شركات أوروبية من بين أبرز المشترين النهائيين، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء. هذا الواقع يكشف حجم الفجوة بين الخطاب السياسي الأوروبي حول “عزل روسيا” والواقع العملي لتأمين احتياجات الطاقة.
وتكمن خطورة هذا النمط في أنه لا يقتصر على شركات صغيرة أو كيانات غامضة، بل يشمل شركات كبرى ذات حضور تاريخي في سوق الطاقة الإقليمي، ما يجعل أي خطوة عقابية شاملة ذات كلفة اقتصادية وسياسية عالية.
في هذا الإطار، يحذّر محللون من أن استمرار هذا المسار قد يحوّل تركيا إلى مركز دائم لتبييض منشأ الطاقة الروسية، ما لم تُفرض آليات رقابية جديدة أكثر صرامة على مستوى الاتحاد الأوروبي نفسه.
هامش الربح… المحرّك الخفي لشبكات الالتفاف
أحد أبرز دوافع استمرار هذه التجارة هو هامش الربح المرتفع الذي توفره. فروسيا، تحت ضغط العقوبات، تبيع منتجاتها النفطية بأسعار مخفضة، فيما تُباع هذه المنتجات لاحقاً في الأسواق الغربية بأسعار أعلى، ما يخلق فارقاً يتراوح بين 10 و20%.
هذا الفارق يغري شبكة واسعة من الوسطاء وشركات الشحن والتخزين بتحمّل المخاطر القانونية والسمعية المرتبطة بتجارة النفط الروسي. ومع كل كيان يُدرج على قوائم العقوبات، يظهر آخر ليحل محله، ما يحوّل المعركة إلى سباق استنزاف طويل.
وتشير تجارب سابقة إلى أن الإجراءات الأكثر فاعلية لم تكن تلك التي استهدفت السفن أو الوسطاء، بل تلك التي طالت منشآت المعالجة أو التكرير نفسها، إذ يؤدي ذلك فوراً إلى وقف التدفقات نحو الأسواق الأوروبية.
غير أن تعميم هذا النموذج على الحالة التركية يبدو أكثر تعقيداً، نظراً لتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية، وغياب إجماع أوروبي كامل حول كلفة المواجهة.
تكشف قضية الموانئ التركية أن معركة العقوبات على الطاقة الروسية لم تُحسم بعد، وأنها انتقلت من مواجهة مباشرة إلى صراع مع شبكات لوجستية معقّدة تُجيد العمل في المناطق الرمادية بين القانون والسياسة.
وبينما يرفع الاتحاد الأوروبي سقف لهجته، تظل فعالية أي خطوة مستقبلية رهناً بقدرته على تجاوز الحسابات السياسية الضيقة، وبناء آلية رقابية موحّدة لا تكتفي بملاحقة السفن، بل تفكك البنية التحتية التي تسمح للنفط الروسي بالوصول إلى أوروبا بوجوه جديدة.


