أزمة الجوع في اليمن تتجاوز “سلة الغذاء”: تحسّن الأسعار لا يوقف اتساع الحرمان مع انكماش التمويل وتعطّل الوصول الإنساني

الاقتصاد اليمني | بقش
في وقتٍ تُظهر فيه بعض مؤشرات السوق تحسناً نسبياً في الأسعار، يكشف المشهد الإنساني في اليمن عن واقع أكثر قسوة وتعقيداً. فالجوع يتوسع، والحرمان الغذائي يبلغ مستويات غير مسبوقة، بينما تتراجع قدرة الاستجابة الإنسانية وتتقلص مساحات الوصول الميداني، خصوصاً في مناطق الشمال. هذا التناقض بين الأرقام الاقتصادية ومعيشة الأسر اليومية يعكس عمق الاختلال القائم في بنية الأمن الغذائي.
لم يعد انخفاض الأسعار وحده كافياً لقياس حجم الأزمة، إذ يتزامن التحسن النسبي في تكلفة السلة الغذائية مع تراجع الدخل، وتآكل القدرة الشرائية، وتقلص برامج الدعم. وبذلك تتحول المؤشرات الإيجابية الظاهرية إلى أرقام معزولة عن واقع الاستهلاك الفعلي داخل المنازل.
وحسب اطلاع بقش على تقرير لبرنامج الأغذية العالمي، فإن الأزمة تتشكل ضمن ثلاث طبقات متداخلة: اقتصاد محلي هش يتأثر بسعر الصرف والوقود، وسلاسل إمداد تعاني من اختناقات مزمنة في الموانئ والملاحة، ثم أسر تتحمل النتيجة النهائية عبر تقليص الوجبات والاعتماد على استراتيجيات تكيّف قاسية.
في هذا السياق، يصبح الأمن الغذائي انعكاساً مباشراً للفشل التراكمي في الاقتصاد والتمويل والوصول، وليس مجرد نتيجة لتقلبات السوق، وهو ما يضع اليمن أمام مرحلة شديدة الخطورة إن استمرت هذه العوامل دون معالجة شاملة.
تمويل يتراجع… ومساعدة تتقلص
على المستوى الإنساني، يبرز تراجع التمويل كعامل حاسم في تعميق الأزمة. فقد جرى تمويل خطة الاحتياجات الإنسانية والاستجابة لعام 2025 بنسبة متدنية مقارنة بالعام السابق، ما دفع المنظمات إلى تقليص نطاق تدخلاتها والانتقال من منطق التغطية الواسعة إلى الاستهداف المحدود.
في مناطق حكومة عدن، أُنجزت عدة دورات من المساعدة الغذائية العامة خلال 2025، مستهدفة ملايين الأشخاص في كل دورة. غير أن أزمة التمويل دفعت إلى اتخاذ قرار بخفض عدد المستفيدين اعتباراً من مطلع 2026، وهو ما يعني عملياً خروج شريحة واسعة من شبكة الأمان الغذائي.
أما في مناطق حكومة صنعاء، فالوضع أكثر حساسية، إذ لم تُنفذ سوى دورتين من المساعدات الغذائية الطارئة خلال العام، قبل أن تتوقف الأنشطة الإنسانية بشكل شبه كامل منذ نهاية أغسطس حسب متابعات بقش، نتيجة غياب المساحة التشغيلية اللازمة للوصول إلى المستفيدين.
هذه التطورات تشير إلى أن المشكلة لم تعد مرتبطة فقط بحجم التمويل، بل بقدرة المنظمات على العمل أصلاً، ما يجعل فجوة الجوع مرشحة للاتساع حتى في حال تحسن بعض المؤشرات الاقتصادية.
الأسعار تهدأ في الريال… لكن المعنى أعمق من رقم
في مناطق حكومة عدن، سجلت تكلفة سلة الغذاء الدنيا استقراراً نسبياً خلال نوفمبر 2025، مع ارتفاع طفيف مقارنة بالشهر السابق. ويأتي هذا الاستقرار بعد تراجع كبير عن ذروة الأسعار المسجلة في منتصف العام، ما يوحي بوجود هامش تهدئة في الأسواق.
غير أن هذا التحسن النسبي لا يعكس بالضرورة تحسناً حقيقياً في قدرة الأسر على الشراء، إذ إن انخفاض الأسعار بالعملة المحلية لم يكن متناسباً بالكامل مع تحسن سعر الصرف، كما أن تكلفة السلة عند احتسابها بالدولار أظهرت اتجاهاً معاكساً.
وجزء من هذا التحسن يرتبط بعوامل ظرفية حسب قراءة بقش، مثل تحسن قيمة الريال وتراجع تكاليف النقل، إضافة إلى انخفاض أسعار بعض السلع الأساسية، وليس نتيجة إصلاحات هيكلية في السوق أو زيادة المنافسة.
وبالتالي، فإن قراءة الأسعار بمعزل عن الدخل والبطالة وتراجع المساعدات تؤدي إلى استنتاجات مضللة، إذ يبقى الاستهلاك الغذائي مقيداً بقدرة الأسر لا بحركة السوق وحدها.
الموانئ والبحر الأحمر: اختناقات الاستيراد تواصل الضغط
على مستوى الإمدادات، ما تزال اختناقات موانئ البحر الأحمر عاملاً ضاغطاً على تدفق السلع، خصوصاً في المناطق الخاضعة لحكومة صنعاء، حيث تضررت القدرة التشغيلية للموانئ وتراجعت كميات الواردات.
واردات الوقود عبر موانئ البحر الأحمر سجلت انخفاضاً ملحوظاً مقارنة بالمتوسط السنوي، كما تراجعت الكميات التراكمية خلال عام 2025 مقارنة بالعام السابق، ما انعكس على تكاليف النقل والنشاط الاقتصادي.
ورغم تراجع علاوات مخاطر الحرب في البحر الأحمر بعد وقف إطلاق النار الإقليمي، فإن حركة السفن لم تعد إلى مستوياتها الطبيعية، وبقيت أقل بكثير من مستويات ما قبل الأزمة.
هذا الواقع يوضح أن انخفاض المخاطر التأمينية لا يكفي وحده لاستعادة تدفق التجارة، وأن اختلال الثقة البحرية يظل عاملاً أساسياً في استمرار الضغوط على الأمن الغذائي.
سعر الصرف: استقرار لا يُلغي هشاشة الاقتصاد
في مناطق حكومة عدن، استقر سعر صرف الريال لعدة أشهر متتالية، مدعوماً بإجراءات رقابية وتشديد على استخدام الدولار في المعاملات التجارية. وأسهم هذا الاستقرار في الحد من تقلبات الأسعار نسبياً.
لكن هذا الاستقرار النقدي يخفي هشاشة أعمق، تتمثل في تراجع الاحتياطات الأجنبية واستمرار الضغوط على المالية العامة، ما يجعل القدرة على الحفاظ عليه محدودة زمنياً.
الاحتياطات المتاحة لا تغطي سوى فترة قصيرة من الواردات، في ظل عجز مالي متزايد، ما يضع السياسة النقدية أمام هامش مناورة ضيق.
في مناطق حكومة صنعاء، استقر سعر الصرف عند مستوى منخفض، لكن البيئة الاقتصادية تعاني من شح السيولة وتراجع النشاط التجاري واضطرابات في القطاع المصرفي، ما ينعكس سلباً على فرص الدخل والاستهلاك.
كما شهدت واردات الغذاء عبر الموانئ اليمنية تراجعاً طفيفاً خلال 2025 مقارنة بالعام السابق، مع بقاء الواردات عبر البحر الأحمر دون مستوياتها السابقة رغم تحسن تدريجي في الأشهر الأخيرة.
في المقابل، ارتفعت واردات الغذاء عبر موانئ عدن والمكلا، ما يعكس تحولاً جزئياً في مسارات الاستيراد من الشمال إلى الجنوب، مع ما يحمله ذلك من أعباء لوجستية إضافية.
هذا التحول لا يعني تحسناً تلقائياً في توفر الغذاء، إذ ترتبط عملية التوزيع بعوامل النقل والتكلفة والقدرة الشرائية داخل البلاد. ورغم انخفاض أسعار الغذاء عالمياً، فإن اليمن لا يستفيد بالكامل من هذا الاتجاه بسبب تعقيدات الحرب والعملة واللوجستيات، ما يبقي فجوة الأمن الغذائي قائمة.
الجوع في ذروته: أرقام تفضح الواقع
تشير المؤشرات التي تتبَّعها بقش إلى أن اليمن بلغ خلال 2025 أعلى مستويات تاريخية من ضعف استهلاك الغذاء، مع تصنيف البلاد ضمن الأكثر تضرراً عالمياً من انعدام الأمن الغذائي. أكثر من نصف الأسر واجهت صعوبة في تلبية الحد الأدنى من احتياجاتها الغذائية، وهو ما يعكس اتساع دائرة الجوع رغم أي تحسن نسبي في الأسعار.
الحرمان الغذائي الشديد يتركز في محافظات بعينها، لكنه يمتد عملياً إلى مختلف المناطق، مع تفاوت في الحدة بين منطقة وأخرى. النازحون داخلياً والأسر التي تقودها نساء يظلون الأكثر هشاشة، نتيجة تداخل عوامل الفقر والنزوح وضعف فرص العمل.
الاستنتاج الأساسي أن السعر لم يعد القصة الكاملة للأزمة. فحتى مع انخفاض تكلفة السلة الغذائية، تبقى القدرة على الشراء محدودة إذا استمر تراجع الدخل والدعم. كما أن تحسن بيئة الملاحة لا يعني تلقائياً استعادة التجارة، ما دامت الثقة البحرية والبنية التحتية تعاني من اختلالات مستمرة.
الأمن الغذائي في اليمن بات معادلة مركبة تجمع بين الاقتصاد والسياسة والتمويل والوصول الإنساني. وأي تحسن جزئي يظل هشاً وقابلاً للانهيار ما لم تُعالج جذور الأزمة بشكل متزامن.
في المحصلة، يقف اليمن عند ذروة تاريخية من الضعف الغذائي، بينما تتراجع المساعدات وتستمر الاختناقات الاقتصادية واللوجستية. وبين أرقام تشير إلى تحسن نسبي في بعض المؤشرات، وواقع يومي يتسم بالجوع والحرمان، تتضح الفجوة بين السوق ومعيشة الناس. ما لم تتغير المعادلة الشاملة، سيظل الأمن الغذائي بعيد المنال، وستبقى معاناة الأسر المؤشر الأصدق على عمق الأزمة.


