
تقارير | بقش
في لحظةٍ سياسية شديدة الحساسية، يجد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه أمام واقع اقتصادي أكثر تعقيداً مما روّجت له خطاباته الانتخابية ووعوده في بداية ولايته الثانية. فالتضخم الذي كان يفترض أن ينحسر مع تباطؤ الاقتصاد وسياسات الفيدرالي الحذرة، عاد ليتصدر المشهد كأضخم تهديد اقتصادي يواجه الولايات المتحدة، وليصبح -وفق لغة الأرقام ومزاج الشارع- المعيار الحاسم في تقييم إدارة ترامب.
وتشير بيانات تتبَّعها مرصد “بقش” لمكتب إحصاءات العمل، صدرت يوم 28 نوفمبر 2025، إلى مسار تصاعدي: التضخم العام وصل إلى 3.6%، والتضخم الأساسي ارتفع إلى 3.9% (مستوى أعلى من متوسط 2023 و2024)، وقفزت الإيجارات بنسبة 6.2%، وهي المكون الأكثر تأثيراً على ميزانيات الأسر، بينما ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 4.8%، وسجلت السلع المعمرة الخاضعة للرسوم الجمركية زيادةً قدرها 5.3%.
هذه القراءات تؤكد أن التضخم لم يعد ظاهرة محصورة بقطاع أو موسمية اقتصادية، بل أصبح واسع الانتشار ويمسّ القطاعات الأكثر حساسية للمستهلك الأمريكي.
يأتي ذلك قبل ساعات فقط من إعلان الاحتياطي الفيدرالي عن توجهاته في اجتماعه (9–10 ديسمبر)، وسط توقعات السوق بخفض الفائدة رغم استمرار الضغوط السعري، وهو تناقض يعكس حجم الضاغط السياسي الواقع على البنك المركزي.
انكماش الثقة
استطلاع هارفارد–هاريس–هاريس X، الصادر في 08 ديسمبر الجاري، كشف مفارقة لافتة، فـ57% من الأمريكيين يرون أن ترامب يخسر معركة السيطرة على الأسعار، وفي المقابل، ثقة الناخبين بإدارته للاقتصاد ككل ما زالت عند 55%.
هذا الانقسام يعني أن التضخم تحوّل إلى قضية مستقلة عن التقييم التقليدي لأداء الرئيس، تماماً كما تحول إلى معيار معيشي يومي أهم من أرقام النمو والبطالة.
الأهم من ذلك أن 71% من الأمريكيين يعتقدون أن التضخم أعلى بكثير من الأرقام الرسمية، ويقدّرون مستواه بما بين 4% و6%. وهذا يؤكد وجود فجوة خطيرة بين التضخم المعلن، والتضخم المُدرَك يومياً، وهي فجوة إن اتسعت، قد تتحول إلى أزمة ثقة اقتصادية على مستوى الشارع، بما يهدد الاستهلاك والاستثمار ويعمّق التباطؤ.
ويشعر الأمريكيون أن الاقتصاد يتجه نحو الانكماش، إذ تشير نتائج استطلاع هارفارد إلى أن 57% من الأمريكيين يتوقعون انكماش الاقتصاد خلال الفترة المقبلة، والسبب الرئيسي هو “التضخم الذي يبتلع أي تحسن في الدخل أو التوظيف”.
وهذا يجعل التضخم همّاً قاتلاً للأمريكيين، فالدخل الاسمي يرتفع لكن القوة الشرائية تهبط أسرع، وأسعار الغذاء والإيجارات والوقود تخرج من دائرة التحمل. وهي صورة “ركود تضخمي مصغّر” تتشكل في الوعي العام، حتى لو لم تعترف بها الإدارة أو البيانات رسمياً بعد.
رسوم ترامب عبء اقتصادي وسياسي
يُظهر الاستطلاع ذاته أن 56% من الأمريكيين يرون أن الرسوم الجمركية تضر الاقتصاد وترفع الأسعار.
اللافت أن هذا الرأي يتكرر لدى والجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين على حد سواء، ما يعني أن تأثير الرسوم خرج من الجدل السياسي التقليدي، ودخل إلى الفاتورة الشهرية لعائلة أمريكية تشتري ثلاجة أو سيارة أو سلعة إلكترونية.
وتشير تقديرات طالعها بقش لبنك “مورغان ستانلي” وبلومبيرغ، إلى ارتفاع تكلفة المدخلات الصناعية بين 8% و13% خلال الربع الأخير فقط بسبب الرسوم.
وهو ارتفاع غير معتاد في مكونات صناعية عادة ما تتحرك ببطء، وهو ما يثبت، وفق رأي بول دونوفان، كبير اقتصاديي UBS، أن “الرسوم ليست سياسة تجارية… إنها ضريبة مفروضة على المستهلك”.
وما دامت كذلك، فهي تضخم هيكلي لا يمكن للفيدرالي كبحه عبر أدواته التقليدية.
ووفق مذكرة غولدمان ساكس في 29 نوفمبر)، فإن احتمال عودة التضخم إلى هدف 2% في 2026 انخفض إلى أقل من 20%. وتُرجع ذلك إلى ثلاثة عوامل رئيسية، أولاً اضطراب الاستيراد وارتفاع تكلفة المدخلات (ارتفاع رسوم الواردات، واختناقات سلاسل الإمداد، وضغوط النقل والطاقة)، وثانياً ارتفاع التكاليف التشغيلية للشركات (أجور أعلى وخدمات أكثر تكلفة وتكاليف الطاقة)، وثالثاً عجز العرض المحلي عن سد فجوة الواردات.
والإنتاج المحلي غير قادر على تعويض السلع الخاضعة للرسوم، ما يؤدي إلى نقص في المعروض وارتفاع أسعار واستمرار الضغط التضخمي لفترة طويلة.
وتقول جاستن وولفرز من جامعة بنسلفانيا: “الجزء الأكبر من التضخم أصبح أمريكياً، وليس خارجياً.”
بمعنى أنه تضخم ناتج عن خيارات سياسية ورسوم جمركية وسياسات عرض وتنظيم سوقي ومالي، وليس فقط عن الحرب التجارية أو اضطراب النقل العالمي.
القلق التضخمي يتصدر لأول مرة منذ عقد
يشير استطلاع هارفارد إلى أن 59% يعتبرون ارتفاع الأسعار القضية الاقتصادية الأولى في حياتهم، و79% يقيّمون الوضع الاقتصادي اعتماداً على أسعار الغذاء والإيجارات والوقود وليس على البيانات الرسمية.
وهذا التحول يعني أن الأمريكي لم يعد يثق في مؤشرات النمو أو تقارير البطالة بقدر ثقته بما يدفعه في المتجر ومحطة الوقود.
ويضرب التضخم عمق صورة ترامب القيادية، فارتفاع الأسعار أصبح معياراً حاكماً لتقييم أدائه اليومي، وهو معيار يفشل فيه الرئيس، رغم ثقة جيدة في إدارته العامة للاقتصاد.
ومع دخول 2026، قد يتحول التضخم إلى عبء انتخابي وأداة ضد الجمهوريين وتهديد للاستقرار الاقتصادي، خاصة مع توقعات المؤسسات المالية بتباطؤ اقتصادي محتمل إذا استمرت الأسعار بالتصاعد.
وتُظهر المعطيات أن الولايات المتحدة اليوم تواجه تضخماً متعدد الطبقات، من تضخم أسعار غذاء وإيجارات، وتضخم ناتج عن الرسوم الجمركية، وتضخم مرتبط بسلاسل الإمداد، وتضخم ناتج عن ارتفاع تكاليف التشغيل، وتضخم مُدرَك يفوق الأرقام الرسمية.
والأهم أن هذا التضخم هيكلي ولا يستجيب بسرعة للسياسات النقدية، وويتغذى على خيارات سياسية داخلية، وهذا ما يجعل معركة ترامب تحدياً سياسياً وشعبياً قد يحدد شكل السنتين القادمتين من ولايته، وربما يحدد مسار الانتخابات القادمة.


