الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

أمريكا وصراع الرسوم.. ماذا لو ألغت المحكمة العليا تعريفات ترامب؟

الاقتصاد العالمي | بقش

حالياً، تعيش الأوساط السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة والعالم حالة ترقب حذرة بعد أن شكّكت المحكمة العليا الأمريكية في مدى قانونية استخدام الرئيس ترامب لسلطاته الواسعة في فرض رسوم جمركية شاملة استناداً إلى قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية (IEEPA) لعام 1977.

الجدل القانوني المحتدم حول دستورية هذا القانون يفتح الباب أمام احتمال تاريخي يتمثل في إبطال السلطات التي استند إليها ترامب لتطبيق استراتيجيته التجارية الهجومية ضد الصين وأوروبا والهند والدول الأخرى، مما يثير غموضاً عميقاً في الأسواق العالمية ويهدد بإعادة تشكيل منظومة التجارة الدولية بأكملها.

وبدأت القضية عندما أثارت شركات أمريكية متضررة من الرسوم الجمركية دعاوى قضائية تابعها مرصد “بقش” ضد إدارة ترامب، معتبرةً أن استخدامه لقانون الطوارئ الاقتصادية لتبرير فرض رسوم جمركية واسعة تجاوز سلطات السلطة التنفيذية وانتهك مبدأ الفصل بين السلطات.

وخلال جلسات الاستماع الأخيرة، شكّك عدد من قضاة المحكمة العليا في مشروعية هذه الممارسة، ما وضع إدارة ترامب أمام احتمال إبطال أساسي لأداتها التجارية الأبرز منذ توليه السلطة، لكن حتى في حال صدور حكم ضد ترامب، فإن الأخير ما زال يمتلك شبكة من الأدوات القانونية البديلة التي يمكنه استخدامها لإعادة فرض الرسوم الجمركية بطرق أخرى.

أدوات بديلة

وفق اطلاع بقش على وكالة بلومبيرغ، يستطيع ترامب اللجوء إلى ما لا يقل عن خمس أدوات قانونية أخرى خارج إطار قانون الطوارئ الاقتصادية، تمكّنه من فرض رسوم جمركية جديدة أو الإبقاء على الرسوم الحالية، في حال أبطلت المحكمة استخدامه لـ(IEEPA).

هذا يعني أن المشهد التجاري لن يشهد بالضرورة تراجعاً كاملاً في الرسوم، بل ربما سيشهد انتقالاً تكتيكياً نحو أسس قانونية جديدة تسمح لترامب بمواصلة نهجه الحمائي تحت غطاء قانوني مختلف.

شركاء واشنطن التجاريون بين الغموض والتوجس

الصين تبقى المتضرر الأكبر من قرارات ترامب الجمركية، إذ كانت صادراتها إلى الولايات المتحدة قد تراجعت للشهر السابع على التوالي، بانخفاض تجاوز 25% في أكتوبر مقارنة بالعام الماضي.

ورغم توصّل ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ إلى اتفاق تجاري جزئي يقضي بخفض الرسوم الأمريكية بنسبة 10% وتمديد تعليق رسوم أخرى لمدة عام، فإن هذا الاتفاق لم يبدد التوترات، بل علّقها مؤقتاً.

الخبيرة ترينه نغوين من بنك “ناتيكسيس” أوضحت وفق بلومبيرغ أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين لم يعد حدثاً عابراً، بل أصبح اتجاهاً جيوسياسياً مستداماً، فالمسألة لم تعد مجرد منافسة تجارية، بل صراع على السيطرة على منتجات استراتيجية كأشباه الموصلات والطاقة المتجددة.

في المقابل، شكك بعض الباحثين الصينيين في قدرة المحكمة العليا الأميركية على كبح ترامب، مشيرين إلى الصلاحيات التنفيذية الواسعة التي يتمتع بها الرئيس الأمريكي، فيما أكدت وسائل إعلام صينية أن من المستبعد أن تُبطل المحكمة سياساته الجمركية بالكامل.

وسجلت تايوان قفزة كبيرة في صادراتها إلى الولايات المتحدة هذا العام، مدفوعة بازدهار قطاع الذكاء الاصطناعي، وهذه الطفرة جعلتها أقل عرضة للتأثر بقرار المحكمة المرتقب، إذ إن معظم المعدات التقنية المتقدمة معفاة أصلاً من الرسوم الأمريكية.

أما اليابان وكوريا الجنوبية، فهما في وضع أكثر استقراراً، بعد أن أبرمت طوكيو اتفاقاً جمركياً واستثمارياً شاملاً مع واشنطن، بينما تقترب سيول من توقيع اتفاق مماثل. ومن المستبعد أن تتراجع أي من الدولتين عن هذه الاتفاقات التي تطلّبت جهودًا مضنية للوصول إليها.

أما منطقة جنوب شرق آسيا، فقد تشهد تقلبات كبيرة، إذ ارتفعت صادرات فيتنام وتايلاند وغيرهما إلى السوق الأمريكية خلال العام الجاري نتيجة محاولات الشركات استباق الرسوم الجمركية.

وفي حال خُفّضت هذه الرسوم أو أُلغيت، فقد يؤدي ذلك إلى تدفق مفاجئ للسلع إلى السوق الأميركية، وهو ما قد يربك ميزان التجارة الداخلية، لكن التأثير الفعلي لا يزال غامضاً، لأن جزءاً كبيراً من هذه الصادرات يتركّز في قطاع أشباه الموصلات، الذي لا يزال معفى من الرسوم حالياً.

ومع ذلك، لوّح ترامب مؤخراً بإمكانية فرض رسوم تصل إلى 300% على هذه الواردات، وهو ما قد يعيد خلط أوراق المنطقة بأكملها.

الهند: مفاوضات محفوفة بالحذر

تخوض الهند مفاوضات دقيقة مع الولايات المتحدة لخفض الرسوم الجمركية المفروضة عليها البالغة 50%، التي تُعد من الأعلى مقارنة بالدول الأخرى، خصوصاً بعد استهدافها بسبب مشترياتها من النفط الروسي.

وقد شهدت الأسابيع الأخيرة تهدئة في لهجة ترامب تجاه نيودلهي، في مؤشر على رغبة الجانبين في التوصل إلى اتفاق تجاري قريب.

ويرى مسؤولون هنود، نقلت عنهم بلومبيرغ حسب اطلاع بقش، أن صدور حكم قضائي ضد ترامب لن يغير كثيراً في مسار المفاوضات الأمريكية الهندية، لأن البيت الأبيض يستطيع استخدام أدوات قانونية بديلة لتحقيق الأهداف ذاتها، سواء عبر إجراءات تنفيذية أو حواجز غير جمركية.

وأشار أحد المسؤولين إلى أن هذه القضية أمام المحكمة العليا تمنح المفاوضين الهنود فرصة لفرض بنود تتماشى مع قواعد منظمة التجارة العالمية ضمن الاتفاق المرتقب، ما يعزز موقع الهند التفاوضي ويمكّنها من تثبيت مكاسب قانونية طويلة الأمد.

أوروبا: شراكة مضطربة

في يوليو الماضي، توصلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اتفاق تجاري رفعت بموجبه واشنطن الرسوم الجمركية إلى 15% على معظم السلع الأوروبية، بما في ذلك السيارات، حسب متابعات بقش، بينما وافقت بروكسل على إلغاء الرسوم المنخفضة على بعض السلع الصناعية الأمريكية والمنتجات الزراعية غير الحساسة.

هذا الاتفاق جاء لتجنّب نزاع تجاري مكلف ولضمان استمرار التعاون الأمني في مواجهة روسيا، إلا أنه واجه انتقادات واسعة من داخل أوروبا، حيث وصفه مسؤولون كبار في الاتحاد بأنه اتفاق غير متكافئ.

ولم ينجح الاتفاق في إلغاء الرسوم العقابية المفروضة على بعض صادرات المعادن الأوروبية، بينما تسعى المفوضية الأوروبية الآن إلى دفع إدارة ترامب نحو خفض الرسم الجمركي البالغ 50% على الصلب والألمنيوم.

في المقابل، يناقش البرلمان الأوروبي إدخال تعديلات على الاتفاق، من بينها إدراج “بند انقضاء تلقائي” يحدد تاريخ انتهاء العمل بالاتفاق ما لم يُجدّد، كوسيلة لتقليص اعتماد أوروبا المفرط على قرارات ترامب الأحادية.

ما موقف الأسواق؟

خبراء من بنك الاستثمار الأمريكي “غولدمان ساكس”، بقيادة أليك فيليبس ويان هاتسيوس، أشاروا إلى أن معظم الدول التي وقّعت اتفاقات تجارية مع إدارة ترامب ستلتزم بها لتجنّب العودة إلى الغموض الجمركي، إلا أن طبيعة الرسوم تجعلها عبئاً على المستوردين الأمريكيين لا على الشركاء الخارجيين.

وقال الخبراء في مذكرة تحليلية إن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تلجأ إدارة ترامب إلى صلاحيات قانونية بديلة لفرض الرسوم نفسها، ما سيؤدي إلى موجة جديدة من عدم اليقين في الأسواق العالمية.

وإذا قضت المحكمة العليا ضد ترامب، فمن المرجح أن ينخفض متوسط الرسوم الفعلية في الولايات المتحدة إلى 6.5%، وهو أدنى مستوى منذ إعلان “رسوم يوم التحرير” في أبريل الماضي، التي طالت عشرات الدول.

لكن انخفاض الرسوم قد يكون مؤقتاً إذا استخدم ترامب أدوات بديلة، مما يخلق تقلّبات حادة في تدفقات التجارة والاستثمار ويزيد من مخاطر الركود الصناعي.

كما أن أي تراجع في الرسوم المفروضة على آسيا وأوروبا سيؤدي إلى تغيّر موازين التنافس الصناعي داخل الولايات المتحدة نفسها، لا سيما في قطاعات السيارات والتقنية والمعادن.

ولا تتعلق القضية فقط بمدى دستورية استخدام قانون الطوارئ، بل تمس جوهر فلسفة ترامب الاقتصادية القائمة على مبدأ “أمريكا أولاً”، والتي تحوّل النظام التجاري الدولي من الانفتاح إلى مرحلة من الحمائية المنظمة سياسياً.

وحتى لو أبطلت المحكمة العليا أدواته القانونية الحالية، فإن ترمب سيجد، وفقًا للخبراء، طرقًا جديدة لاستمرار نهجه الحمائي، وهو ما يعني أن حالة الغموض التجاري ستظل قائمة، أما على المستوى الدولي فإن تداعيات هذه الأزمة تتجاوز الرسوم نفسها لتصل إلى الثقة بالولايات المتحدة كشريك تجاري موثوق، خاصة في ظل تناقض سياساتها بين الوعود بالاتفاقات والتهديدات بالرسوم.

تشكيك المحكمة العليا في صلاحيات ترامب ليس نهاية للرسوم الجمركية، بل بداية فصل قانوني جديد في حرب اقتصادية طويلة بين واشنطن والعالم، فما بين أدوات الطوارئ، والبدائل القانونية، والضغوط الجيوسياسية، يبدو أن النظام التجاري العالمي يدخل مرحلة إعادة صياغة، ستكون فيها القرارات القضائية والسياسية الأمريكية عاملاً رئيسياً في رسم ملامح الاقتصاد الدولي للسنوات القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى