
الاقتصاد العالمي | بقش
وجد الاتحاد الأوروبي نفسه عالقاً مرة أخرى في شبكة الترددات الداخلية، وضغوط الخارج، واختبار الإرادة السياسية، إذ إن تعثّر توقيع اتفاق التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وتكتل “ميركوسور” كشف عن مأزق أعمق يواجه القارة العجوز في محاولتها الإفلات من نظام عالمي يعاد تشكيله على إيقاع “دونالد ترامب” من جهة، والاستقطاب الحاد بين الولايات المتحدة والصين من جهة أخرى.
وكالة بلومبيرغ قالت في تقرير اطلع عليه “بقش”، إنه بعد 25 عاماً من التفاوض مع الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي وباراغواي، كان من المنتظر أن توقّع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، يوم السبت 20 ديسمبر، أكبر اتفاقية تجارة حرة في تاريخ الاتحاد.
لكن بدلاً من الاحتفال، وجدت نفسها في سباق مع الوقت لإنقاذ الاتفاق عبر حشد دعم اللحظة الأخيرة، في ظل اعتراضات متجددة تقودها إيطاليا، بدعوى المخاوف من الأثر المحتمل على القطاع الزراعي المحلي.
أثار هذا التعثر استياءً في أمريكا الجنوبية، إذ أكد الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا على “نفاد الصبر”، قائلاً: “الوقت حان الآن أو لن يحين أبداً”، في إشارة إلى أن تكتل ميركوسور لم يعد مستعداً لانتظار أوروبا إلى ما لا نهاية.
وفي رسالة رسمية إلى لولا، أقرت فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا بعدم الالتزام بالموعد النهائي الذي حدّداه بأنفسهما، مؤكدين في الوقت نفسه أنهما “يعملان بفعالية” لإتمام الاتفاق، مع محاولة جديدة للتوقيع في 12 يناير، ولكن من دون أي ضمانات.
وميركوسور هو تكتل اقتصادي في أمريكا اللاتينية يهدف إلى تحقيق التكامل بين الدول الأعضاء، والدول المؤسسة له هي البرازيل، الأرجنتين، أورغواي، وباراغواي.
اتفاق تجاري.. ورهان جيوسياسي
أهمية اتفاق ميركوسور تتجاوز بكثير أرقام التبادل التجاري، فبالنسبة للاتحاد الأوروبي كان الاتفاق يُفترض أن يكون دليلاً عملياً على قدرته على لعب دور قوة عالمية مستقلة، وقادراً على التحرك خارج فلك الصين والولايات المتحدة، في وقت تتصاعد فيه التوترات التجارية مع الطرفين.
فون دير لاين وصفت اللحظة بأنها “لحظة استقلال أوروبا”، في إشارة واضحة إلى أن بروكسل ترى في الاتفاق أداة استراتيجية لا تقل أهمية عن ملفات دعم أوكرانيا أو إعادة تشكيل سلاسل التوريد. غير أن الواقع كشف هشاشة هذا الطموح أمام الانقسامات الداخلية.
أوروبا بين الصين وأمريكا
تأتي هذه الأزمة في سياق دولي بالغ الحساسية، فالاتحاد الأوروبي ينظر إلى الصين بوصفها منافساً اقتصادياً وخصماً منهجياً، وقد شهدت العلاقة بين الطرفين تصعيداً تجارياً متبادلاً شمل فرض رسوم جمركية، إضافة إلى إعلان بكين تشديد القيود على صادرات المعادن النادرة والمواد الحيوية، ما فضح هشاشة الصناعات الأوروبية واعتمادها على الخارج.
في المقابل، وجدت أوروبا نفسها في الصيف الماضي تقبل باتفاق تجاري غير متوازن مع الولايات المتحدة، وافقت بموجبه على فرض رسوم بنسبة 15% على معظم صادراتها، مقابل تعهد أمريكي بإزالة الرسوم على السلع الصناعية الأمريكية، وهي خطوة رآها كثيرون تنازلاً أوروبياً تحت ضغط الأمر الواقع.
ووفق “بلومبيرغ إيكونوميكس”، فإن الفشل في إقرار الاتفاق سيضر اقتصادياً بدول ميركوسور أكثر من الاتحاد الأوروبي، لكنه في المقابل سيمثل انتكاسة جيوسياسية كبيرة لبروكسل في وقت تتزايد فيه الضغوط من واشنطن وبكين، حسب قراءة بقش، أي إن الخسارة هنا ليست تجارية بحتة، بل تمس صورة الاتحاد وقدرته على الالتزام بوعوده وبناء شراكات طويلة الأمد.
الاتفاق، لو أُبرم، كان سيُنشئ سوقاً متكاملة تضم نحو 780 مليون مستهلك، ويزيل تدريجياً الرسوم الجمركية على سلع استراتيجية مثل السيارات، ويوفر لأوروبا وصولاً أوسع إلى الزراعة والموارد الضخمة في دول ميركوسور.
والأهم من ذلك، كان سيمنح الاتحاد الأوروبي سلاسل توريد وروابط اقتصادية تقلل اعتماده على الولايات المتحدة والصين، وتُظهره كبديل اقتصادي موثوق للدول الباحثة عن تنويع شراكاتها.
وفي قلب هذا التعثر تقف إيطاليا. رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني أعلنت أنها تحتاج إلى مزيد من الوقت للحصول على موافقة داخلية، ما جعل روما في موقع “بيضة القبان”.
أغاث ديماراي، كبيرة الباحثين السياسيين في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، حذرت من أن اقتصادات نامية أخرى تراقب هذا المشهد، وستلاحظ مدى صعوبة تمرير أي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي.
في برلين وعواصم أوروبية أخرى، يُنظر إلى ميلوني على أنها تحاول انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب، خصوصاً لصالح القطاع الزراعي الإيطالي، مستفيدة من دورها الحاسم.
لولا نفسه قال إن ميلوني أبلغته بأنها تحتاج فقط “لبضعة أيام أخرى”، لكن الانقسام الأوروبي بين متفائلين بإعطاء إيطاليا الضوء الأخضر في النهاية، ومتشائمين يرون أن الوقت قد يكون قد نفد، لا يزال قائماً.
وعبّر بيرند لانغه، رئيس لجنة التجارة في البرلمان الأوروبي، عن هذا القلق بقوله: “إذا لم يتم توقيع الاتفاق في 20 ديسمبر، فإنه سيموت، وسيكون لذلك عواقب على علاقات التجارة المستقبلية للاتحاد الأوروبي مع دول العالم”.
محاولات إنقاذ بلا نتيجة
في محاولة أخيرة لتمرير الاتفاق، وافق البرلمان الأوروبي وحكومات الاتحاد على إضافة ضمانات جديدة لحماية المزارعين الأوروبيين من صدمات مفاجئة في الأسعار أو الواردات. لكن هذه التنازلات لم تكن كافية لتبديد المخاوف أو كسر الجمود.
في الشارع، عبّر آلاف المزارعين عن رفضهم خلال قمة بروكسل، عبر احتجاجات أشعلوا خلالها الإطارات وألقوا البطاطس في الطرقات، في مشهد لخص حجم التوتر بين الطموحات الجيوسياسية للنخب الأوروبية والمخاوف الاجتماعية-الاقتصادية في الداخل.
وفي حال استمرار الجمود، وفق بلومبيرغ، فقد يتجه الطرفان إلى مسارات أخرى. حسب الرئيس البرازيلي، فإن إنهاء مفاوضات امتدت 26 عاماً “لن يكون ممكناً من دون إرادة سياسية وشجاعة”، مؤكداً أن التكتل سيواصل العمل مع شركاء آخرين.
ويضع تكتل ميركوسور نصب عينيه اتفاقاً محتملاً مع الإمارات حسب متابعة بقش، ويفكر في شراكات مع كندا والمملكة المتحدة واليابان. وفي المقابل، يحاول الاتحاد الأوروبي إغلاق صفقة طال انتظارها مع الهند، وهي بدورها قيد التفاوض منذ نحو عقدين، في مفارقة تعكس بطء الآلة التفاوضية الأوروبية.
المستشار الألماني فريدريش ميرتس اختصر الموقف الأوروبي بقوله: “إذا أراد الاتحاد الأوروبي الحفاظ على مصداقيته في سياسة التجارة العالمية، فيجب اتخاذ القرارات الآن”.
وما يحدث اليوم ليس مجرد خلاف على بنود زراعية أو رسوم جمركية، بل اختبار حقيقي لقدرة الاتحاد الأوروبي على التحول من قوة تنظيمية مترددة إلى فاعل جيوسياسي حاسم.
وسيبعث فشل اتفاق ميركوسور، إن حدث، برسالة سلبية إلى العالم مفادها أن أوروبا لا تزال أسيرة حساباتها الداخلية، وغير قادرة على استثمار اللحظات التاريخية حين تتاح لها.
أما إذا نجحت بروكسل في إنقاذ الاتفاق في يناير 2026، فسيكون ذلك انتصاراً متأخراً، لكنه ضروري، لإثبات أن لحظة استقلال أوروبا ليست مجرد شعار، بل خيار سياسي قادر على الصمود في وجه الضغوط والاختبارات الصعبة.


