أوهام مالية وحقائق اقتصادية قاسية: إسرائيل بين وعود خفض الضرائب والقيود البنكية وأزمة النقل التي تشلّ الاقتصاد

تقارير | بقش
في الوقت الذي يَعِد فيه وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بخفض الضرائب وتثبيت الدين العام في موازنة 2026، تتصاعد المؤشرات الاقتصادية من الداخل لتكشف عن صورة مغايرة تماماً: عجز متنامٍ، وتضخم في النفقات الدفاعية، وقرارات مالية تقيد قدرة الأسر على الاقتراض، إلى جانب أزمة نقل ومواصلات تُكبّد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر بملايين الشواقل يومياً.
وحسب اطلاع مرصد “بقش” على تقارير نشرتها صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية، فإن المشهد العام يوحي بأن إسرائيل تمرّ بمرحلة إعادة تشكّل اقتصادي قسري، بعد أن تبيّن أن المشاريع الضخمة والإنفاق المفرط الذي رافق سنوات ما بعد الحرب لم يُخطط له بعناية كافية، واصطدم على أرض الواقع بعقبات متتالية: تراجع الإيرادات، وارتفاع الديون، ونقص العمالة، وتضييق السيولة المصرفية.
في الوقت ذاته، تُظهر التقارير الميدانية أن النظام المالي والنقل العام يعيشان اختناقاً حقيقياً: قيود جديدة من بنك إسرائيل ترفع تكلفة الرهون العقارية وتضرّ بالشرائح الضعيفة، في حين يتسول قطاع النقل إدخال آلاف العمال الأجانب لتفادي شلل اقتصادي كامل.
ازدواجية سموتريتش: وعود سياسية بغطاء اقتصادي
منذ أسابيع، يروّج سموتريتش لخطابه الجديد حول “خفض الضرائب على الطبقة المتوسطة” باعتباره إنجازاً وطنياً بعد عام من الحرب. لكن خلف هذا الخطاب، تكشف أرقام وزارة المالية التي تتبَّعها بقش عن عجزٍ متزايد يلامس 5.2% من الناتج المحلي، ودينٍ عامٍّ تجاوز 71%، وهي مستويات لم تسجلها إسرائيل منذ أكثر من عقدين.
يُظهر تقرير كالكاليست الذي طالعه بقش، أن الوزير اليميني المتطرف يسعى إلى تسويق تعديلات ضريبية روتينية (مثل تحديث الشرائح وفق التضخم) على أنها “خفض ضريبي”، في محاولة لتخفيف الضغط السياسي عن حكومته.
لكن هذه المناورة، كما تقول الصحيفة، لا تغيّر من الواقع شيئاً: الإيرادات الحكومية بالكاد تغطي النفقات الدفاعية المتصاعدة، بينما الاقتصاد الحقيقي يعاني من تباطؤ واضح في الإنتاج والاستهلاك.
حسب بيانات بنك إسرائيل، فإن نقطة انطلاق موازنة 2026 تقوم على عجز أساسي قدره 4.3%، قبل أي تخفيضات ضريبية أو إنفاق إضافي. ومع استمرار الإنفاق الدفاعي وتباطؤ الإيرادات، من المتوقع أن يتجاوز الدين العام سقف 75% من الناتج المحلي خلال عامين فقط.
الخبراء يحذرون من أن زيادة الدين العام تعني ارتفاع كلفة الاقتراض، وتراجع التصنيف الائتماني، وتقلّص حيز الإنفاق الاجتماعي.
ويشير أحد الاقتصاديين في حديث لـكالكاليست إلى أن “سموتريتش يتعامل مع الاقتصاد كما لو كان شركة صغيرة، يمكنها تأجيل الديون عاماً تلو الآخر، بينما الواقع أن الدولة تموّل نفقاتها عبر الاقتراض المفرط، وهو ما يهدد استقرارها المالي في المدى المتوسط”.
عبء الدفاع وتراجع الإنتاجية
لا يمكن لأي موازنة إسرائيلية اليوم تجاوز بند الدفاع. فبعد الحرب، تضاعفت مخصصات الأمن إلى مستويات غير مسبوقة، ومعها تراجعت قدرة الوزارات المدنية على تمويل مشاريع التنمية والبنية التحتية.
الصحيفة نقلت عن مصادر في وزارة المالية أن تكلفة الجنود الاحتياطيين وحدها قد تضيف نحو 20 مليار شيكل في موازنة العام المقبل، مما يجعل أي خفض للضرائب ضرباً من الخيال المالي.
وفي هذا السياق، يرى محللون أن إسرائيل تُواجه تحدياً وجودياً في مزيجها الاقتصادي: اقتصاد دفاعي متورم، واقتصاد مدني متراجع، وهي معادلة تجعل من كل محاولة للتوسع المالي “إعادة توزيع للعجز” لا أكثر.
بنك إسرائيل يضغط على الأسر: قيود جديدة على الرهن العقاري
في محاولة لحماية النظام المالي من فقاعة ديون محتملة، أعلن بنك إسرائيل عن مشروع لائحة جديدة تحدّ بشكل كبير من قدرة الأسر على الحصول على قروض تكميلية بضمان العقار.
وبحسب تقرير كالكاليست الذي اطلع عليه مرصد بقش، فإن البنك قرر أن لا تتجاوز المدفوعات الشهرية لجميع قروض الإسكان -بما فيها الرهن العقاري الرئيسي والقروض الثانوية- 40% من الدخل المتاح للأسرة.
هذا الإجراء سيحرم آلاف العائلات من إمكانية تمويل مشاريعها أو شراء منازل إضافية، ويُجبرها على اللجوء إلى قنوات إقراض غير مصرفية بفوائد مرتفعة.
ويقول أحد الاقتصاديين في التقرير: “القرار يُقصد به حماية الاستقرار المالي، لكنه في الواقع ينقل عبء المخاطرة إلى الطبقات الأضعف، التي ستتحمل كلفة الاقتراض الأعلى”.
وتُظهر البيانات أن هذه القروض بلغت 5.5 مليار شيكل بين يناير وسبتمبر 2025، بمعدل فائدة يقل عن 6%، مقارنةً بأكثر من 10% في القروض غير المضمونة. لكن بعد القيود الجديدة، سيرتفع معدل الفائدة الفعلي، ما يعني تآكل قدرة الأسر على الاستهلاك وزيادة الركود في السوق العقارية.
أزمة النقل: الاقتصاد يفقد 10 ملايين شيكل يومياً
في موازاة هذه الأزمات المالية، تشهد إسرائيل أزمة متفاقمة في قطاع النقل والمواصلات، حيث تعاني البلاد من نقص حاد في السائقين المحترفين، يُقدّر بنحو 3500 سائق شاحنات ثقيلة و5000 سائق حافلات.
وحسب تقرير آخر نشرته كالكاليست، يكبّد هذا النقص الاقتصاد الإسرائيلي خسائر تُقدّر بنحو 10 ملايين شيكل من الناتج المحلي الإجمالي يومياً بسبب تعطل سلاسل الإمداد وتأخير نقل البضائع والمواد الخام.
مجلس شركات النقل والمواصلات ناشد الحكومة السماح باستقدام عمال أجانب لسد الفجوة، مؤكداً وفق قراءة بقش أن “إسرائيل تنفق مليارات على مشاريع البنية التحتية، لكنها تفتقر إلى من يقود الشاحنات التي تنقل مواد البناء”.
ويعود هذا النقص إلى عزوف الإسرائيليين عن العمل في المهن المجهدة، إضافة إلى مغادرة آلاف العمال الأجانب بعد الحرب وقيود الطيران مع بعض الدول.
الأزمة لا تقتصر على الشحن التجاري، بل تمتد إلى قطاع النقل العام. منتدى مشغّلي النقل العام في إسرائيل، الذي يضم كبرى الشركات مثل “إلكترا أفيكيم” و”متروبولين” و”دان بئر السبع”، حذر في رسالة إلى الكنيست من أن نقص السائقين يؤدي إلى تأخيرات في الجداول اليومية وتراجع جودة الخدمة، خصوصاً في المناطق الطرفية.
وتشير الشركات إلى أن هناك أكثر من 5000 وظيفة سائق شاغرة في خطوط النقل العام، وأن اللجوء إلى عمال أجانب أصبح خياراً لا مفرّ منه.
إلا أن بطء الإجراءات الحكومية وضعف التنسيق بين وزارات الاقتصاد والنقل جعل الأزمة تتفاقم، فيما تحاول بعض الشركات معالجة العجز من الداخل عبر حوافز مالية مثل منحة تصل إلى 75 ألف شيكل للسائقين الذين يستمرون في العمل لأكثر من ثلاث سنوات.
يتجاوز النقص في العمالة قطاع النقل البري ليصل إلى مشاريع القطار الخفيف والمترو التي تُبنى في تل أبيب وضواحيها.
هيئة المترو الإسرائيلية حذرت من أن استمرار النقص في العمالة الأجنبية سيؤدي إلى تأخير افتتاح الخطوط الجديدة لسنوات، إذ لم تعد الدولة قادرة على تلبية الطلب المتزايد على العمال بسبب رحيل الآلاف وتراجع الاتفاقيات مع دول مصدّرة للعمال مثل تركيا.
الاقتصاد الإسرائيلي أمام مرحلة انكشاف شامل
تدرس السلطات حلولاً عاجلة، منها تسريع استقدام العمال من آسيا الشرقية وتبسيط إجراءات التأشيرات، لكن هذه الحلول تصطدم بواقع أوسع: قطاعات البناء والتمريض “تلتهم” أي حصة جديدة من العمالة الأجنبية قبل أن تصل إلى قطاع النقل.
ومن خلال متابعة مرصد بقش للتقارير الاقتصادية الإسرائيلية، يتضح أن إسرائيل تدخل عام 2026 وسط تشابك ثلاثي الأبعاد للأزمات: أزمة مالية تتمثل في العجز والديون ووعود الضرائب غير الواقعية، وأزمة اجتماعية ناتجة عن القيود الائتمانية التي تخنق الأسر، وأزمة لوجستية تضرب النقل والبنية التحتية وتؤثر على النمو اليومي.
هذه الأزمات ليست معزولة عن بعضها، بل تشكّل دوامة اقتصادية واحدة تُهدد بإبطاء النمو الحقيقي وتحويل “الانتعاش” الموعود إلى ركودٍ صامت.
خلاصة المشهد، وفق تحليل بقش، أن الاقتصاد الإسرائيلي يعيش مرحلة “صحوة مؤلمة” بعد عقدٍ من الاندفاع خلف مشاريع كبرى وشعارات عن اقتصاد الابتكار. فما بين الوعود الانتخابية لسموتريتش، وتشدد بنك إسرائيل، وأزمة النقل والمواصلات، يجد المواطن الإسرائيلي نفسه أمام واقعٍ جديد: ضرائب لا تنخفض، قروض لا تُمنح، وطرق مزدحمة بلا سائقيها.


