تقارير
أخر الأخبار

إسرائيل تعيد فتح ملف الاستيطان في غزة: من إدارة الحرب إلى فرض الوقائع الدائمة

تقارير | بقش

أعادت تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس حول عدم الانسحاب الكامل من قطاع غزة، والحديث الصريح عن إعادة استيطان شماله، فتح واحد من أكثر الملفات حساسية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فالكلام هذه المرة لم يأتِ في سياق نقاش داخلي هامشي أو تسريبات سياسية، بل في مناسبة رسمية مرتبطة بإقرار وحدات استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وبحضور قادة التيار الاستيطاني داخل الحكومة.

هذا السياق يمنح التصريحات وزناً مضاعفاً، إذ يعكس انتقال الخطاب من مستوى التلويح الأيديولوجي إلى مستوى القرار السياسي المعلن. فربط الاستيطان في غزة بتجربة الضفة الغربية، وتقديمه بوصفه خياراً أمنياً ناجحاً، يعني أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تعد تنظر إلى القطاع كملف مؤقت أو عبء عسكري فقط، بل كساحة قابلة لإعادة الهندسة الجغرافية والسياسية.

الأهم في خطاب كاتس هو نفيه القاطع لفكرة الانسحاب الكامل من غزة، وهو ما ينسف عملياً أي تصور لمرحلة “ما بعد الحرب” قائم على تفكيك الوجود الإسرائيلي العسكري أو فتح المجال أمام ترتيبات فلسطينية مستقلة. بهذا المعنى، تتحول غزة من مسرح عمليات إلى مساحة سيطرة دائمة، تُدار بمنطق السيادة لا بمنطق الاحتواء المؤقت.

هذه التصريحات التي تابعها بقش تكشف أيضاً أن النقاش داخل إسرائيل لم يعد محصوراً في كيفية إنهاء الحرب، بل في كيفية استثمار نتائجها لفرض واقع طويل الأمد، حتى لو تعارض ذلك مع الخطط الأمريكية أو مسارات التهدئة الإقليمية.

الاستيطان كأداة أمنية: إعادة إنتاج نموذج الضفة الغربية

يرتكز خطاب وزير الدفاع الإسرائيلي على فرضية أساسية مفادها أن وجود المستوطنات يعزز “الواقع الأمني”، وهي فرضية لطالما شكّلت حجر الزاوية في السياسات الإسرائيلية بالضفة الغربية. إعادة استدعاء هذا النموذج في غزة تعني أن المؤسسة الحاكمة ترى في الاستيطان أداة ضبط وسيطرة، لا مجرد مشروع أيديولوجي لليمين الديني.

في هذا التصور، لا تُفصل المستوطنات عن المنظومة الأمنية، بل تُعد امتداداً لها، حيث تُستخدم كوسيلة لفرض حضور دائم، وتغيير الجغرافيا، وخلق وقائع تعيق أي انسحاب مستقبلي. هذا يعكس تحولاً من إدارة المخاطر إلى فرض السيطرة، ومن الردع إلى إعادة التشكيل.

اللافت أن هذا الطرح يأتي بعد نحو عقدين من تفكيك المستوطنات في غزة عام 2005، وهي الخطوة التي اعتُبرت آنذاك تحولاً استراتيجياً في السياسة الإسرائيلية. إعادة طرح الاستيطان اليوم تمثل عملياً تراجعاً عن ذلك الخيار، وإقراراً ضمنياً بأن الانسحاب لم يُحقق لإسرائيل النتائج الأمنية المرجوة من وجهة نظر صانعي القرار الحاليين.

كما أن الربط المباشر بين الاستيطان في الضفة وغزة يوحي بتوحيد الساحتين ضمن مقاربة واحدة، تتجاهل الفوارق القانونية والسياسية، وتُخضعهما لمنطق السيطرة ذاته، ما يعقّد أي محاولة للفصل بين المسارين مستقبلاً.

تناقض داخل الحكومة أم توزيع أدوار؟

تصريحات كاتس تتعارض ظاهرياً مع مواقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أكد مراراً عدم وجود خطط لإعادة بناء مستوطنات في غزة وفق اطلاع بقش. غير أن هذا التناقض يثير تساؤلات حول ما إذا كان الخلاف حقيقياً أم أنه جزء من توزيع أدوار مدروس داخل الائتلاف الحاكم.

في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، كثيراً ما استُخدم التضارب في التصريحات كأداة لإدارة الضغوط الدولية، حيث يُترك للتيار اليميني المتشدد رفع سقف الخطاب، فيما يحتفظ رئيس الحكومة بهامش المناورة الدبلوماسية. من هذا المنظور، قد لا يكون تصريح كاتس خروجاً عن الخط العام بقدر ما هو اختبار لردود الفعل.

لكن توقيت التصريحات، وارتباطها بإعلانات استيطانية فعلية في الضفة، يوحي بأننا أمام مرحلة يتقدم فيها التيار المؤيد لفرض السيادة على حساب الاعتبارات الدبلوماسية. وجود شخصيات مثل بتسلئيل سموتريتش في المشهد يعزز هذا الاتجاه، ويجعل خطاب الاستيطان أقرب إلى برنامج عمل منه إلى ورقة ضغط.

بذلك، يتحول التناقض الظاهري إلى مؤشر على تحوّل داخلي أعمق، حيث تتراجع الاعتبارات البراغماتية أمام اندفاع أيديولوجي مدعوم بواقع ميداني فرضته الحرب.

الوساطة واتفاق غزة: مسار يتآكل سياسياً

تصريحات كاتس تأتي في وقت تبذل فيه أطراف الوساطة الدولية جهوداً مكثفة لدفع اتفاق وقف إطلاق النار نحو مرحلته الثانية مطلع عام 2026. هذا المسار، الذي تشارك فيه الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا، يقوم على افتراض أن هناك أفقاً سياسياً يمكن البناء عليه بعد الحرب.

غير أن الحديث العلني عن عدم الانسحاب من غزة وإعادة الاستيطان يقوّض هذا الافتراض من أساسه. فكيف يمكن الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة في ظل إعلان نية فرض سيادة دائمة؟ هذا التناقض يضع الوسطاء أمام معضلة حقيقية، ويقلّص هامش قدرتهم على تقديم ضمانات لأي طرف.

التفاؤل الذي عبّر عنه مسؤولون مصريون وأتراك بشأن تقدم المحادثات يبدو، في هذا السياق، هشّاً ومعرضاً للاهتزاز في أي لحظة. فالمسار التفاوضي يفترض وجود استعداد إسرائيلي لتنازلات مرحلية، بينما تشير تصريحات كاتس إلى توجه معاكس تماماً.

ووفق قراءة بقش، تزيد هذه المواقف من القلق الإقليمي، خاصة في القاهرة، التي عبّرت عن مخاوف متزايدة من تصاعد الاستيطان في الضفة الغربية، وهو ما يضع ملف غزة ضمن سياق أوسع من التوسع الإسرائيلي الذي يهدد استقرار المنطقة.

غزة في الحسابات الإسرائيلية الجديدة

ما تكشفه تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي هو أن غزة لم تعد تُعامل كملف أمني مؤقت، بل كجزء من معادلة السيادة الإسرائيلية طويلة الأمد. هذا التحول يعني أن الحرب لم تكن فقط رداً عسكرياً، بل أداة لإعادة صياغة العلاقة مع القطاع.

إعادة الاستيطان، حتى لو جرى تدريجياً أو بصيغ “أمنية” في البداية، ستغيّر طبيعة الصراع، وتنقل غزة من حالة حصار إلى حالة ضم فعلي مقنّع. وهو ما سيجعل أي انسحاب مستقبلي أكثر كلفة سياسياً وأمنياً.

في الوقت نفسه، فإن هذا التوجه يعكس ثقة متزايدة داخل إسرائيل بقدرتها على إدارة التبعات الدولية، مستفيدة من حالة الانقسام الدولي، وتراجع الضغوط الفعلية، وانشغال القوى الكبرى بملفات أخرى.

تصريحات يسرائيل كاتس تمثل أكثر من موقف شخصي أو مناورة سياسية، بل تعكس اتجاهاً استراتيجياً داخل إسرائيل يسعى لتحويل نتائج الحرب إلى وقائع دائمة على الأرض. إعادة طرح الاستيطان في غزة تعني عملياً إغلاق الباب أمام أي تصور لانسحاب كامل أو تسوية سياسية تقليدية.

في ظل هذا المسار، يبدو أن اتفاقات التهدئة والوساطة تتحول إلى أدوات لإدارة الوقت لا لتغيير الاتجاه. فبينما يعمل الوسطاء على إنقاذ المسار التفاوضي، تتحرك إسرائيل لفرض معادلة سيادية جديدة. وغزة، وفق هذا المنطق، لم تعد مرحلة عابرة في الصراع، بل ساحة إعادة تعريفه بالكامل.

زر الذهاب إلى الأعلى