إسرائيل عند أدنى مستوى تصنيف ائتماني في تاريخها.. والأسواق لم تقتنع بانتهاء الحرب

تقارير | بقش
رغم الأجواء الإيجابية التي رافقت الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، لا يزال الاقتصاد الإسرائيلي أمام مرحلة بالغة التعقيد، فقد أبقت وكالة التصنيف الائتماني العالمية “موديز” على تصنيف إسرائيل عند (Baa1)، وهو أدنى مستوى في تاريخها المالي، مع نظرة مستقبلية سلبية.
ويعكس هذا القرار استمرار القلق العميق من هشاشة الاقتصاد الإسرائيلي وتنامي المخاطر الجيوسياسية التي لم يُبدّدها اتفاق وقف إطلاق النار، بعد حرب طويلة أنهكت الاقتصاد ورفعت الإنفاق العسكري إلى مستويات قياسية على مدى عامين منذ أكتوبر 2023.
ويعني قرار “موديز” عملياً أن الوكالة لا ترى تحسناً جوهرياً في البيئة الاقتصادية أو المالية رغم وقف الحرب، وجاء في بيانها الذي اطلع عليه مرصد “بقش” أن اتفاق وقف إطلاق النار “تطور إيجابي نسبياً” لكنه غير كافٍ لتغيير الصورة الائتمانية لإسرائيل، إذ إن التحسن الحقيقي مرهون بتقدّم الاتفاق إلى ما بعد مرحلته الأولى واستمرار الهدوء الأمني حتى عام 2026 على الأقل.
وتشير الوكالة إلى أن توقعاتها السابقة كانت تفترض انتهاء العمليات العسكرية قبل بداية عام 2026، ما يجعل تأثير الاتفاق الحالي محدوداً زمنياً على التقديرات السابقة.
وكانت وكالة موديز خفّضت تصنيف إسرائيل في سبتمبر 2024 درجتين كاملتين من A2 إلى Baa1 حسب مراجعة بقش، في خطوة غير مسبوقة منذ تأسيس الكيان، معتبرةً أن الجدارة الائتمانية الإسرائيلية تآكلت نتيجة تفاقم المخاطر الأمنية وتراجع الثقة في الانضباط المالي.
ومنذ ذلك التاريخ، حافظت الوكالة على نظرتها السلبية، رغم محاولات الحكومة الإسرائيلية استعادة الاستقرار المالي عبر سياسات تقشفية جزئية وإعادة هيكلة للإنفاق الدفاعي.
بين النمو المحدود والعجز المتصاعد
رفعت موديز توقعاتها للنمو الاقتصادي لعام 2025 إلى 2.5% فقط، بعد أن كانت 2%، على أن يتسارع النمو إلى 4.5% في 2026 إذا استمر الهدوء النسبي، لكن في المقابل حذرت الوكالة من أن العجز الحكومي سيبلغ 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، مقارنة بالهدف الرسمي البالغ 4.9%، بسبب الارتفاع الحاد في الإنفاق الأمني والدفاعي.
وتتوقع موديز أن يتراجع العجز إلى 4.2% في عام 2026 في حال اعتماد ميزانية جديدة قبل نهاية مارس المقبل، وهو شرط يتطلب استقراراً سياسياً غير مضمون في ظل الانقسامات داخل الائتلاف الحكومي.
وترى الوكالة أن عودة جنود الاحتياط إلى سوق العمل بعد وقف القتال قد تخفف الضغط عن الأجور، مما يمنح بنك إسرائيل مساحة لخفض أسعار الفائدة مطلع 2026، لكنها حذّرت أيضاً من أن أي انتكاسة في اتفاق الهدنة أو تصعيد أمني جديد قد يعيد التضخم إلى الارتفاع ويقوّض جهود التعافي النقدي.
ورغم الهدوء النسبي في الجبهة الجنوبية، ترى موديز أن المخاطر الجيوسياسية لا تزال مرتفعة للغاية، فإسرائيل تواجه حالة عدم يقين استراتيجي بسبب هشاشة الاتفاق، إضافة إلى توتر العلاقات مع بعض القوى الغربية بسبب السياسات العسكرية الإسرائيلية.
وحسب اطلاع بقش، تشير الوكالة إلى أن هذه البيئة تجعل التحسن في تدفق الاستثمارات الأجنبية والسياحة هشاً ومؤقتاً، إذ يتردد المستثمرون في ضخ رؤوس أموال جديدة ما دامت الأوضاع الأمنية والسياسية غير مستقرة.
كما أن الإنفاق العسكري المفرط، إلى جانب الانقسامات السياسية الحادة داخل الحكومة الإسرائيلية، قد يعرقلان أي إصلاح مالي حقيقي، فضلاً عن أن الضغوط الاجتماعية الناتجة عن ارتفاع تكاليف المعيشة، وعودة آلاف الجنود إلى الحياة المدنية، تضع عبئاً إضافياً على الموازنة العامة.
ثلاثة شروط صعبة للتحسن الاقتصادي
تَعتبر وكالة موديز أن تحسن التصنيف مرهون بثلاثة شروط أساسية: استمرار وقف إطلاق النار وتثبيته سياسياً وأمنياً، وضبط الإنفاق العام وتبني ميزانية واقعية للعام 2026، وتعزيز ثقة المستثمرين عبر استقرار حكومي ومؤسساتي مستدام.
وتشير تناولات “بقش” إلى أن إسرائيل تبدو بعيدة نسبياً عن تحقيق الشروط الثلاثة مجتمعةً خلال العام المقبل، فبالنسبة لاستمرار وقف إطلاق النار وتثبيته سياسياً وأمنياً، يُعتبر الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ في وقت سابق من أكتوبر الجاري هشاً ومرحلياً مؤقتاً، ولا يتضمن حتى الآن ترتيبات سياسية طويلة الأمد أو ضمانات دولية قوية، ومن شأن عودة التوترات أن تنسف أي محاولة للتقدم الاقتصادي خطوةً إلى الأمام.
كما أن الانقسام السياسي داخل إسرائيل يفرض نفسه حول كيفية إدارة الحرب والهدنة، بين تيارات اليمين المتشدد التي ترفض التسوية، وتيارات الوسط التي تدعو إلى تهدئة طويلة الأمد.
أما عن ضبط الإنفاق العام وتبنّي ميزانية واقعية للعام المقبل، فإن تحقيق هذا الشرط يواجه عدداً من الصعوبات مثل الإنفاق العسكري المتضخم الذي ارتفع بأكثر من 30% خلال عام واحد وفق بيانات “بقش”، مما استنزف المالية العامة الإسرائيلية بصورة غير مسبوقة، وأي خفض مفاجئ للإنفاق سيواجه معارضة سياسية قوية من المؤسسة العسكرية والأمنية، التي ترى أن الخطر لم ينتهِ بعد.
وتجد الحكومة الإسرائيلية نفسها مضطرة إلى زيادة الدعم والإنفاق الاجتماعي لاحتواء الغضب الشعبي بسبب ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات العامة، وهو ما يتناقض مع متطلبات الانضباط المالي.
وحول الشرط الثالث، المتمثل في تعزيز ثقة المستثمرين عبر استقرار حكومي ومؤسساتي مستدام، فإن تحقيقه ضعيف جداً على المدى القريب والمتوسط، لأسباب منها تآكل الثقة في مؤسسات الدولة، وهروب رؤوس الأموال والشركات الأجنبية وتجميد الاستثمارات أو نقلها جزئياً إلى أوروبا والولايات المتحدة، خصوصاً في قطاعات التكنولوجيا، في حين تحتاج إعادة الثقة إلى استقرار سياسي طويل المدى وسياسات مالية شفافة، وهو ما تفتقر إليه الحكومة الحالية.
إضافة لذلك، تعاني إسرائيل من عزلة دبلوماسية متنامية، إذ توترت العلاقات نسبياً مع الاتحاد الأوروبي، بشكل يقلل من فرص تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر. ويتطلب تحقيق الشرط الثالث -وهو الأكثر صعوبةً- إصلاحاً مؤسسياً عميقاً واستقراراً سياسياً طويل الأمد، وكلاهما غائب في المشهد الإسرائيلي الحالي.
الأسواق لم تقتنع بانتهاء الحرب
يبدو أن قرار موديز مفادُهُ أن الأسواق العالمية لم تقتنع بأن الحرب انتهت فعلاً، فوقف إطلاق النار -رغم أهميته- لا يعني بالضرورة نهاية مرحلة التهديدات، بل قد يكون هدنة مؤقتة في صراع مفتوح، وحسب تقارير سابقة لـ”بقش” فإن إسرائيل المعزولة حالياً تجد نفسها أمام تحدٍّ مزدوج، بين إعادة ترميم صورتها الخارجية أمام المستثمرين والدائنين، ومحاولة تحقيق توازن داخلي بين متطلبات الأمن والاقتصاد.
وبذلك يشير إبقاء تصنيف موديز عند أدنى مستوى تاريخي، إلى فقدان الثقة الدولية في قدرة إسرائيل على الفصل بين الميدان والسياسة المالية، ما يجعلها في وضع مالي هش ومشروط بالاستقرار الأمني، وتؤكد تجربة السنوات الأخيرة أن الاقتصاد الإسرائيلي بات رهينة الصراع العسكري والسياسي، وأن أي انفراج أمني لا يُترجَم فوراً إلى تحسن مالي ملموس.
وتتوقف المرحلة المقبلة على مدى استقرار الاتفاق وعلى قدرة الكيان على استعادة الانضباط المالي، أما تجدد التوترات فيعني إبقاء إسرائيل عالقة في دائرة التصنيف المنخفض والنظرة السلبية التي تضرب اقتصادها.