
تقارير | بقش
بعد مرور عامين على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وجدت إسرائيل نفسها في عزلة غير مسبوقة على الساحة الدولية، ومحاصرةً بانقسام داخلي يهدد تماسكها السياسي والاجتماعي، وسط تصاعد الإدانات العالمية لإسرائيل والاعترافات الدولية بدولة فلسطين، في حين تتراجع قدرتها على فرض روايتها في الخارج رغم ضخها ملايين الدولارات لنشر روايتها عبر النشطاء والمؤثرين حول العالم (بما لا يقل عن 7,000 دولار للمنشور الواحد المؤيد لإسرائيل).
ومع تحويل قطاع غزة إلى مكان مدمر غير صالح للعيش، وقتل أكثر من 67 ألف فلسطيني ومنع إدخال الأدوية والأغذية، أجَّج هذا الواقع غضباً دولياً ساهم في عزل إسرائيل دولياً، وامتد هذا العزل إلى شرائح داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، إضافةً إلى جزء من تيار “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” (MAGA).
كما تشهد المصانع الإسرائيلية تراجعاً كبيراً في الصفقات التجارية، مع انتشار مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، فوفق اطلاع “بقش” على صحيفة يديعوت أحرونوت، يؤكد مسح لجمعية الصناعيين الإسرائيليين شمل 132 صناعياً، أن نصف المصدّرين خسروا صفقات أو لم تُجدَّد عقودهم، وأوضح 71% منهم أن الإلغاءات كانت لأسباب سياسية مرتبطة بالحرب.
أكثر من نصف المشاركين (54%) أكدوا أن العملاء الجدد المحتملين يرفضون التعاون مع إسرائيل، بينما تدرس المفوضية الأوروبية فرض عقوبات اقتصادية على التجارة مع إسرائيل، فيما ألغت إسبانيا صفقات مع شركات سلاح إسرائيلية تُقدر بـ1.2 مليار دولار، أما السبب وراء انخفاض صادرات إسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي فهو صادرات الرقائق الإلكترونية إلى أيرلندا.
وأعلنت شركة مايكروسوفت الأمريكية، في سبتمبر الماضي، إيقاف وصول وحدة تابعة للجيش الإسرائيلي إلى مجموعة من خدماتها السحابية والذكاء الاصطناعي، بعد ثبوت استخدامها في إطار برنامج مراقبة جماعية يستهدف الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
كما باع أكبر صندوق تقاعد في القطاع الخاص في بريطانيا ما قيمته 80 مليون جنيه إسترليني من أصوله في إسرائيل، وفي مايو أيضاً أعلنت شركة إيباي العالمية، عملاق تجارة التجزئة الإلكترونية، عن قرارها بإغلاق جميع أنشطتها في إسرائيل بحلول الربع الأول من عام 2026، وتسريح أكثر من 200 موظف يعملون هناك.
مكالمة حادة بين ترامب ونتنياهو
بدوره واصل ترامب استخدام نفوذه في الملف الإسرائيلي، مستفيداً من العزلة المتزايدة لنتنياهو لفرض شروطه بشأن خطة سلام من 20 بنداً تنص على انسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي من غزة، وتشكيل لجنة فلسطينية تكنوقراطية لإدارة القطاع بصفة مؤقتة. وفي الوقت الحالي تُعقد مفاوضات غير مباشرة في القاهرة بين إسرائيل وحركة حماس برعاية أمريكية مصرية قطرية لتنفيذ هذه الخطة.
ويقول موقع أكسيوس الأمريكي إن ترامب يبدو أنه فقد صبره تجاه نتنياهو، حيث قدّمت حماس رداً اعتبره ترامب إيجابياً على مقترحه لوقف الحرب في غزة، ما دفعه إلى الاتصال بنتنياهو لمناقشة الأمر، لكن الأخير “كان له رأي مختلف”.
وأضاف الموقع عن مسؤول أمريكي مطّلع على المكالمة: “بيبي (نتنياهو) قال لترامب إن هذا الرد ليس أمراً يدعو للاحتفال، ولا يعني شيئاً”، فردّ عليه ترامب بغضب: “لا أفهم لماذا أنت دائماً سلبي للغاية بهذا الشكل اللعين، هذا مكسب عليك أن تتقبّله”.
من الإبادة إلى الاعتراف بفلسطين وتصاعد المقاطعة
التحقيق المستقل الذي أجرته الأمم المتحدة خلص لأول مرة إلى أن إسرائيل ارتكبت جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وهو ما دعمته منظمات حقوقية دولية وخبراء متخصصون، وبينما رفضت الحكومة الإسرائيلية هذه الاتهامات، تزايدت الضغوط عليها بعد أن رفعت “جنوب أفريقيا” دعوى أمام “محكمة العدل الدولية” في ديسمبر 2023 حسب متابعات بقش، أعقبتها أوامر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر 2024 بحق رئيس الوزراء نتنياهو ووزير دفاعه آنذاك يوآف جالانت، بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
هذه التطورات هزت صورة إسرائيل في العالم الغربي، وتراجع الدعم السياسي والشعبي لها حتى داخل أقرب حلفائها.
وتوسعت الاعترافات الدولية بدولة فلسطين على إثر ذلك، إذ ارتفع عدد الدول التي اعترفت بدولة فلسطينية مستقلة إلى 160 دولة، بشكل غير مسبوق، بعدما أقدمت 20 دولة جديدة على الاعتراف خلال العامين الماضيين، من بينها فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وأستراليا وكندا حسب تتبُّع بقش لإعلانات هذه الدول.
واعتبرت هذه الدول أن الاعتراف بفلسطين جزء من دعم حل الدولتين، في حين وصف نتنياهو ذلك بأنه “مكافأة للإرهاب”.
وإضافة لذلك، أوقفت عدة دول صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، فيما فرضت دول أخرى عقوبات اقتصادية ودبلوماسية، أبرزها كولومبيا (التي طالب رئيسها بتشكيل جيش دولي موحد لمواجهة إسرائيل) وجنوب أفريقيا وماليزيا.
وحالياً يدرس الاتحاد الأوروبي تعليق اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل وحظر دخول منتجات المستوطنات الإسرائيلية إلى أراضيه، وكذا تقليص السفر بدون تأشيرة لمواطني إسرائيل إلى الاتحاد، ورغم رفض ألمانيا وبعض الدول الأوروبية هذه الإجراءات، إلا أن الاتجاه العام داخل الاتحاد الأوروبي يميل إلى زيادة العقوبات على تل أبيب.
وحسب اطلاع بقش، تجاوزت مقاطعة إسرائيل الجانب السياسي لتصل إلى الفضاء الثقافي والفني والأكاديمي، حيث وقّع أكثر من خمسة آلاف فنان عالمي، من بينهم مارك رافالو وخافيير بارديم وخواكين فينيكس، عريضةً تعهدوا فيها بعدم التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية، كما أعلنت دول مثل إسبانيا وهولندا وأيرلندا مقاطعتها لمسابقة “يوروفيجن 2026” في حال مشاركة إسرائيلية.
أنهت أكثر من 20 جامعة أوروبية تعاونها مع نظيرات إسرائيلية، وتم إلغاء دعوات لأساتذة وباحثين إسرائيليين للمشاركة في مؤتمرات دولية، في خطوة تعدّ من أوسع حملات المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل منذ تأسيسها.
عقوبات ضد مسؤولي حكومة نتنياهو
وتزايدت الإجراءات العقابية الغربية ضد شخصيات في حكومة نتنياهو، إذ فرضت بريطانيا وكندا وأستراليا والنرويج ونيوزيلندا عقوبات مباشرة على وزراء من اليمين المتطرف، من بينهم إيتمار بن جفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، متهمة إياهم بالتحريض على العنف ضد الفلسطينيين، وتم منعهما من دخول الأراضي البريطانية وتجميد أصولهما المالية، فيما علّقت لندن مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل وأعادت تقييم علاقاتها الاقتصادية معها.
أما ألمانيا، ثاني أكبر مصدر لواردات الأسلحة لإسرائيل، فأعلنت وقف تصدير الأسلحة القابلة للاستخدام في غزة، وفرضت إسبانيا حظراً على دخول أراضيها لأي شخص متورط في الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب، إضافةً إلى منع استيراد منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، التزاماً بالقانون الدولي ورفضاً للتهجير القسري للفلسطينيين.
الانقسام الداخلي في إسرائيل
في غضون هذا الجو المشحون الخارجي، تشهد إسرائيل في الداخل انقساماً حاداً بين التيار اليميني المتشدد والداعين إلى إنهاء الحرب.
يتمسك وزراء اليمين المتطرف، مثل بن جفير وسموتريتش، بمواصلة العمليات العسكرية واقتراح ضم الضفة الغربية، وهو ما يعني فعلياً القضاء على أي أمل في حل الدولتين.
في المقابل، خرجت مظاهرات أسبوعية في مدن إسرائيلية عدة، نظمها عرب إسرائيل، وأقارب المحتجزين في غزة، وقدامى المحاربين، للمطالبة بوقف إطلاق النار.
ووفق اطلاع بقش على نتائج استطلاع رأي نُشر في سبتمبر 2025، فإن 64% من الإسرائيليين يؤيدون وقف إطلاق النار، ما يعكس تراجع التأييد الشعبي لاستمرار الحرب، وتنامي الشعور بالإرهاق الوطني من الصراع المستمر.
بالنتيجة، تدخل إسرائيل العام الثالث من حرب الإبادة على غزة وهي تواجه تحولاً جذرياً في مكانتها الدولية وتصدعاً داخلياً في شرعيتها السياسية، فبينما تسعى حكومة نتنياهو إلى الحفاظ على موقفها العسكري، تتآكل صورتها في الخارج، وتتراجع قدرتها على المناورة السياسية أمام تراكم الملفات الحقوقية والضغوط الاقتصادية والدبلوماسية.
ومع استمرار الانقسام الداخلي، تبدو إسرائيل عالقة بين واقع الحصار الدولي المتزايد وتحديات داخلية تهدد تماسكها، ما يجعل المرحلة القادمة الأخطر في تاريخها منذ تأسيسها قبل أكثر من سبعين عاماً.