الاقتصاد العربي
أخر الأخبار

إعادة إعمار غزة.. مؤتمر ووعود كثيرة وغياب الثقة يخيّم على كل الأطراف

الاقتصاد العربي | بقش

توقفت الحرب في غزة بعد عامين من الدمار، لكن هديرها لم ينتهِ بعد. فبدلاً من الدخان المتصاعد من الأبنية، يعلو اليوم غبار المؤتمرات والوعود، في مشهد يذكّر الفلسطينيين بأن معارك الإعمار لا تقل قسوة عن معارك الحرب.

خلال قمة شرم الشيخ الأخيرة، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وثيقة وقف الحرب، معلناً أن “إعمار غزة سيكون معجزته القادمة”. غير أن هذه “المعجزة” ما تزال حتى اللحظة حبراً على ورق، وسط شكوك متزايدة في نوايا الأطراف جميعاً — من واشنطن إلى تل أبيب مروراً بالعواصم العربية.

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أعلن استضافة مؤتمر “التعافي المبكر وإعادة الإعمار والتنمية” في نوفمبر، بدعم أمريكي ودولي، لكن المتابعين يرون أن المؤتمر سيكون تكراراً لنسخ سابقة حملت نفس الشعارات، من دون أن تغيّر شيئاً في واقع غزة المحاصر. وبينما تُقدّر كلفة الدمار بنحو 80 مليار دولار، يخيّم سؤال أكبر من الأرقام: من يثق بمن؟

أرقام ضخمة وتمويل غائب

تقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أشارت إلى أن الأضرار تجاوزت 70 مليار دولار، منها أكثر من نصفها في قطاع الإسكان، مع تدمير نحو 292 ألف منزل ومنشأة. ومع أن الحرب انتهت رسمياً، فإن غزة ما تزال عملياً غير صالحة للحياة: 95% من مستشفياتها خارج الخدمة، وطرقاتها مدمرة، ومياهها ملوثة.

رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى تحدث عن “برنامج تعافٍ عاجل” يمتد ستة أشهر بكلفة 30 مليار دولار، لكن لا أحد يعرف من سيموّله فعلاً. فالتجارب السابقة تُظهر أن الوعود الدولية غالباً ما تنتهي في ممرات البيروقراطية، بينما يتكدّس الركام في شوارع القطاع.

حتى الآن، لا توجد أي جهة أعلنت التزاماً حقيقياً بالأموال المطلوبة. الولايات المتحدة تتحدث عن “دعم طويل الأمد”، لكن دون تفاصيل. الخليج يُتوقّع أن يموّل القسم الأكبر، وفق تصريحات نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، لكن هذه التصريحات لا تحمل أي التزام رسمي. أما إسرائيل، فهي الجهة التي بوسعها عرقلة كل شيء، من المعابر إلى حركة الشاحنات، متذرعةً دوماً بـ“الاعتبارات الأمنية”.

الضمانات المفقودة: ثلاث كلمات تُحدد مصير الإعمار

يقول الخبراء إن إعادة إعمار غزة تحتاج إلى ثلاثة ضمانات: وقف إطلاق النار، واستمرار العملية، وتأمين التمويل. لكن أياً من هذه الشروط لا يبدو مؤكداً.

ترمب أعلن أن “الاتفاق سيصمد طويلاً”، لكن الواقع على الأرض أكثر هشاشة من البيانات الدبلوماسية. فالحكومة الإسرائيلية، التي وافقت شكلياً على “المرحلة الأولى” من الاتفاق، لم تُخفِ تهديدها بالعودة إلى الحرب إذا لم تُلبَّ شروطها.

حتى الحديث عن “مجلس سلام” يرأسه ترمب ويضم شخصيات مثل توني بلير والسيسي، بدا للبعض أشبه بمسرحية سياسية أكثر منه التزاماً حقيقياً. فالمجلس الذي يُفترض أن يدير التمويل ويشرف على التنفيذ لم يُحدد صلاحياته، ولا من سيُحاسبه إذا فشل.

يقول الخبير الفلسطيني نصر عبد الكريم إن “الضمان الحقيقي لنجاح الإعمار هو انسحاب الجيش الإسرائيلي وفتح المعابر، وإلا فكل حديث عن البناء في ظل الاحتلال العسكري مجرد وهم”. لكن إسرائيل، كما يضيف، “لن تسمح بإعمار ما يمكن أن يُستخدم ضدها مرة أخرى”.

خطة ترمب.. طموحات أمريكية بلا التزامات

الحديث الأمريكي عن “معجزة اقتصادية في غزة” يثير تساؤلات أكثر مما يجيب. فخطة ترمب التي قُدّمت على أنها “رؤية للسلام والتنمية” تتجاهل واحدة من أهم قضايا القطاع: موارد الغاز الطبيعي في حقل غزة مارين، والتي تُقدّر بأكثر من تريليون قدم مكعب.

الخطة لم تتطرق لكيفية استغلال هذا المورد أو حماية حقوق الفلسطينيين فيه. في المقابل، منحت إسرائيل تراخيص جديدة لشركات عالمية للتنقيب في مناطق بحرية تُعد قانوناً تابعة للسلطة الفلسطينية، ما يثير الشكوك حول من سيستفيد فعلاً من مرحلة “ما بعد الحرب”.

بكلمات أخرى، تبدو خطة الإعمار أقرب إلى مشروع نفوذ أمريكي – إسرائيلي – خليجي مشترك، أكثر من كونها مبادرة إنسانية لإحياء غزة. فكل طرف يسعى لنصيبه من “الكعكة” قبل أن يُسكب الإسمنت الأول في الشارع.

الفاعلون الجدد.. مصالح لا مساعدات

تستعد مصر لاستقبال الشركات المحلية في مشاريع الإسمنت والمقاولات، تماماً كما فعلت بعد حرب 2021، حين وعدت القاهرة بنصف مليار دولار للمشاريع المنفذة عبر شركاتها.

تركيا أيضاً أعلنت استعدادها للمشاركة، وقدّم الرئيس رجب طيب أردوغان وعداً بـ“دور رئيسي في إعادة الإعمار”. أما أوروبا، فتسعى من خلال مؤتمراتها إلى موطئ قدم اقتصادي في إعادة بناء البنية التحتية.

لكن خلف كل هذا النشاط الدبلوماسي تكمن حسابات سياسية وتجارية باردة. فالشركات التركية والمصرية والأوروبية تتسابق على العقود، والدول المانحة تضع شروطها، فيما يبقى الشعب الفلسطيني مجرد متفرج في “بازار الإعمار”.

ويخشى مراقبون أن تتحول العملية إلى سباق نفوذ، أكثر منها مشروع إنقاذ، حيث يسعى كل طرف إلى ترسيخ وجوده في القطاع بما يتجاوز الاقتصاد إلى الأمن والسياسة، بينما تغيب الشفافية والمؤسسات الفلسطينية الفاعلة عن المشهد تماماً.

من القاهرة إلى واشنطن، مروراً بتل أبيب وأنقرة، الجميع يتحدث عن “إعمار غزة” كأنه مشروع عالمي للسلام، لكن الحقيقة أن لا أحد يبدو مستعداً لتحمّل مسؤولياته كاملة.
التمويل غامض، الضمانات هشة، والإرادة السياسية مترددة. حتى اللحظة، لا أحد يستطيع الجزم إن كانت الأموال الموعودة ستصل إلى غزة أم ستُعلّق في ملفات المانحين والبنوك.

في النهاية، قد تتحول “إعادة الإعمار” إلى واجهة جديدة للنفوذ الإقليمي، ووسيلة لإعادة توزيع المصالح بين القوى الكبرى، أكثر من كونها مسعىً لإعادة الحياة إلى مدينة مدمّرة.
فغزة، كما يصفها أحد الاقتصاديين الفلسطينيين، “لم تعد تبحث فقط عن من يبني جدرانها، بل عن من يمكن الوثوق به لئلا يهدمها من جديد.”

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش