إعادة تشكل تدفقات الطاقة العالمية.. كيف تكدّس مليار برميل من النفط في البحار؟

الاقتصاد العالمي | بقش
يشهد سوق النفط العالمي تطوراً استثنائياً بسبب تراكُم قرابة مليار برميل من الخام على متن ناقلات تجوب بحار العالم، في مشهد يعكس مزيجاً من ضغط العقوبات الغربية، وزيادة الإنتاج العالمي، وتعطل مسارات البيع والتفريغ.
وبتتبُّع مرصد “بقش” لبيانات “فورتكسا” و”كبلر” و”أويل إكس”، فإن نحو 40% من هذه الزيادة منذ نهاية أغسطس 2025 يعود إلى نفط صادر من روسيا وإيران وفنزويلا، أو إلى شحنات مجهولة المنشأ، فيما تُعد تقديرات الـ20% الأدنى أعلى من الحصة الحقيقية لهذه الدول في سوق الإنتاج العالمي.
وتقول وكالة بلومبيرغ إن هذا التراكم لا يعني بالضرورة أن تلك البراميل ستظل بلا مشترين، لكنه في حد ذاته تهديد مباشر لإيرادات الدول الخاضعة للعقوبات، مع ما يحمله من تداعيات على التوازنات في سوق النفط العالمي الذي يتجه إلى حالة من تخمة المعروض.
ذلك يأتي ضمن سياق معقد يجمع بين زيادة الإنتاج العالمي وبين تعذر تفريغ شحنات خاضعة للعقوبات أو لشبكات ما يسمى بأسطول الظل.
إعادة رسم خريطة تدفقات الخام
تؤكد البيانات أن تشديد العقوبات الغربية أدى إلى إعادة هيكلة مسارات تجارة النفط، خاصة بالنسبة لروسيا، بعد أن شددت واشنطن عقوباتها على أكبر شركتين نفطيتين روسيتين “روسنفت” و”لوك أويل”، فيما أحجمت مصافي الهند عن بعض الشحنات الروسية، وسط مؤشرات على عدم استعداد الصين لملء الفجوة كما في السابق.
وارتفعت شحنات الخام الروسي المنقولة بحراً خلال الأسابيع الأخيرة، مع عودة روسيا إلى زيادة الإنتاج بعد إنهاء التخفيضات المتفق عليها ضمن تحالف “أوبك+”، ويُتوقع أنّ بعض الشحنات تتحرك بهدف الوصول إلى محطات تصدير بديلة عقب الهجمات الأوكرانية على البنية التحتية الروسية، خصوصاً مصافي التكرير.
وانعكست هذه التطورات على إيرادات موسكو، حيث تراجعت الضرائب النفطية بأكثر من 24% على أساس سنوي وفق اطلاع بقش، فيما تتوقع الحكومة الروسية هبوطاً في عائدات النفط والغاز إلى أدنى مستوياتها منذ جائحة 2020.
ولم تكن روسيا وحدها في دائرة الضوء، فقد قفزت الشحنات الإيرانية إلى أعلى مستوى لها منذ سبع سنوات في أكتوبر الماضي، وهو الشهر الذي فرضت فيه الولايات المتحدة عقوبات جديدة على محطة صينية رئيسية لدورها في شراء النفط الإيراني.
النشاط المتزايد لـ”أسطول الظل”، الذي يعمل على نقل نفط خاضع للعقوبات بعيداً عن الرصد الرسمي، أدى بدوره إلى تأخيرات كبيرة في التفريغ. وتشير “أويل إكس” إلى احتمال تعديل الكميات المبحرة بالزيادة مع توالي التأكيدات حول الشحنات.
السعودية.. أكبر مساهم في ارتفاع الشحنات العائمة
على الجانب غير الخاضع للعقوبات، تكشف بيانات “أويل إكس” أن السعودية كانت أكبر مساهم فردي في ارتفاع كميات النفط الموجودة في البحر منذ نهاية أغسطس 2025، تليها الولايات المتحدة وروسيا بفارق ضئيل.
فقد صدرت المملكة النفط بأعلى وتيرة منذ عامين ونصف، مواصلةً استعادة الحصة السوقية التي فقدتها خلال سنوات خفض الإنتاج الذي قاده تحالف “أوبك+”.
كما شهدت الولايات المتحدة ارتفاعاً في كميات النفط العائمة، بعد أن وصلت شحنات أكتوبر إلى أعلى متوسط شهري منذ يوليو 2024، نتيجة اندفاع مصافي آسيا لاقتناص النفط الأمريكي خلال الصيف، مستفيدة من نافذة المراجحة بعد ارتفاع أسعار خامات الشرق الأوسط.
النفط الخاضع للعقوبات.. الجزء الأكبر من المشكلة
رغم زيادة الإمدادات العالمية، إلا أن النفط الخاضع للعقوبات يمثل الحصة الأكبر من الارتفاع مقارنة بإنتاج هذه الدول، الذي يبلغ نحو 17% فقط من الإنتاج العالمي.
وهذا الخلل بين الحصة الإنتاجية وحجم الشحنات العالقة يكشف أن العقوبات لا تعرقل فقط عمليات البيع، بل تضغط على أسطول الناقلات العالمي، بعد أن قفزت أسعار الشحن اليومية، لفترة وجيزة، إلى أكثر من 100 ألف دولار حسب قراءة بقش للبيانات.
ويوضح محللو “كلاركسون سيكيوريتيز” أن جزءاً مهماً من النفط الروسي أصبح عالقاً على متن ناقلات لا تملك وجهة قادرة على الاستقبال، فيما يتجه المستوردون السابقون إلى شراء بدائل من الشرق الأوسط والمحيط الأطلسي.
ويشدد المتعاملون على أن مصير هذه الكميات، سواء خضعت للعقوبات أو لا، سيكون عاملاً حاسماً في تحديد مسار أسعار النفط في الأشهر المقبلة. ففي حال استمرار الشحنات العالقة في الارتفاع، فقد يتعزز سيناريو فائض المعروض، ما سيضع ضغطاً هبوطياً على الأسعار، أما إذا استطاعت تلك الكميات إيجاد أسواق بديلة أو التفريغ تدريجياً، فقد تتجنب السوق تقلبات حادة.
ويختصر برايان ماندل، نائب الرئيس التنفيذي لـ”فيليبس 66″، الموقف بقوله: “من الواضح أن هناك كمية كبيرة من النفط في البحار حالياً، ونترقب لنعرف ما هي”.
ويُعد رقم المليار برميل مؤشراً على ضغط العقوبات وتبدلات مسارات التصدير، واستجابة المنتجين الكبار لأسعار السوق. ففي حين تواجه روسيا وإيران وفنزويلا ضغوطاً، تستغل السعودية والولايات المتحدة الفراغ وتوسعان حضورهما في السوق العالمية.
ويُنظر إلى أسطول الناقلات العالمي بوصفه أصبح لاعباً أساسياً في مشهد الطاقة، بعدما أصبحت قدرته على المناورة جزءاً من اللعبة الجيوسياسية، وسط توقعات بأن تشهد السنوات المقبلة إعادة هندسة كاملة لتدفقات الخام العالمية، تعتمد على شدة العقوبات، واستجابة آسيا، وتوازنات “أوبك+”.


