
أخبار الشحن | بقش
شهدت سوق شحن الحاويات خلال العامين الماضيين تحوّلاً قسرياً لم تعرفه بهذا الاتساع منذ عقود، بعدما دفعت عمليات قوات صنعاء في البحر الأحمر خطوط الملاحة إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح بدل المرور عبر باب المندب وقناة السويس. هذا التحوّل لم يكن مجرد تعديل مسار، بل إعادة تسعير كاملة لمخاطر النقل البحري، أعادت توزيع الأحجام، ورفعت مدد الرحلات، وخلقت «وضعاً طبيعياً جديداً» مكلفاً لكنه قابل للتنبؤ.
اليوم، ومع بداية حديث الأسواق عن عودة تدريجية محتملة إلى طريق البحر الأحمر، ترى مجموعة آي إن جي (ING Group) الهولندية للخدمات المالية والمصرفية، أن هذا التطور سيكون «الأمر الرئيسي الذي يجب مراقبته» في شحن الحاويات خلال العام المقبل، ليس لأن العودة مؤكدة فوراً، بل لأن السؤال لم يعد يدور حول «هل» ستعود الخطوط، وإنما حول «متى» وكيف وبأي وتيرة، وما الذي سيحدث للأسعار والطاقة الاستيعابية والجداول عندما تتحرك أول شركة كبرى وتفتح الباب أمام الآخرين.
تاريخياً، كانت قناة السويس أحد أعمدة التجارة بين الشرق والغرب، واستوعبت جزءاً كبيراً من تجارة البضائع العالمية، ولا سيما حركة الحاويات المرتبطة بالبضائع الاستهلاكية التي تُغذي الأسواق الأوروبية. لذا فإن تحويل هذا الشريان إلى مسار طويل حول إفريقيا لم يكن مجرد خيار تكتيكي، بل تغيّر هيكلي أضاف أميالاً بحرية وأياماً تشغيلية، ورفع استهلاك الوقود والانبعاثات، وفرض على سلاسل الإمداد إعادة ضبط مخزونها ومواعيدها على واقع جديد.
الأثر الأهم أن هذا الالتفاف، رغم كلفته، منح شركات الشحن مكاسب غير متوقعة: فبعد انهيار الأسعار من قمم حقبة الوباء، جاءت الأزمة لتنعش أسعار الحاويات وهوامش الربحية على نحو مستمر أطول مما كان متوقعاً. هذا ما يجعل عودة البحر الأحمر، للمفارقة، خبراً جيداً لسلاسل الإمداد من حيث الكفاءة، لكنه خبراً مقلقاً لقطاع يعتمد على ندرة السعة وارتفاع الأسعار لتحقيق أرباحه.
لحظة الحقيقة
تقدير مجموعة آي إن جي (ING Group) ينطلق من فكرة بسيطة لكنها ثقيلة الأثر: قرار العودة إلى البحر الأحمر لن يكون قراراً فردياً معزولاً، لأن قطاع الخطوط الكبرى يعمل وفق منطق التماثل التنافسي. فإذا قررت شركة كبرى أن المخاطر أصبحت مقبولة وأن المرور يستحق المجازفة، فإن شركات أخرى ستسارع إلى اللحاق بها حتى لا تخسر ميزة زمن الرحلة وكلفة التشغيل أمام منافس يعبر المسار الأقصر.
هذا السلوك «القطيعي» يفسّر لماذا تحذر ING من أن العودة ستكون حدثاً صاخباً بحجم الصدمة الأولى عندما وقع التحول نحو رأس الرجاء الصالح. فالمنظومة التي تكيفت على مسارات أطول وتوزيع سفن مختلف ستضطر فجأة إلى إعادة الضبط في الاتجاه المعاكس، ومع كل إعادة ضبط كبيرة تظهر عادة اختناقات غير محسوبة في الموانئ ومحطات الحاويات وسلاسل إعادة تموضع الحاويات الفارغة.
في هذا السياق، بدأت بعض الخطوط الكبرى تتحدث بلغة أقل استبعاداً لفكرة العودة بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة خلال أكتوبر، إذ لم تعد شركات مثل ميرسك وهاباغ لويد تقطع بعدم العودة، لكنها تربطها بشرط «السماح بالظروف» وفق متابعات مرصد بقش. هذا التحفظ ليس مجرد تعبير دبلوماسي، بل اعتراف بأن المخاطر الأمنية والتأمينية والسمعية لا تزال جزءاً من المعادلة، وأن أي خطأ في التوقيت قد يعيد الشركات إلى لعبة التحويلات ذهاباً وإياباً.
وعلى الضفة الأخرى، تبرز مجموعة CMA CGM الفرنسية للشحن والخدمات اللوجستية، بوصفها حالة أكثر ميلاً للاختبار، إذ واصلت بعض الخدمات تحت حراسة بحرية، وتلمّح إلى استئناف العبور بصورة أسرع. غير أن بيانات الحركة حتى نوفمبر 2025 تُظهر أن البحر الأحمر لم يستعد زخمه الطبيعي، ما يعني أن أي عودة واسعة لم تبدأ بعد فعلياً، وأن السوق لا يزال يعيش بين منطق الترقب ومنطق التجربة المحدودة.
3 آلاف ميل بحري تختصر 10 أيام وتحرر طاقة عالمية ضخمة
أحد الأسباب التي تجعل العودة «زلزالاً» في سوق الحاويات هو الفارق التشغيلي الصريح بين المسارين. فاستئناف العبور عبر البحر الأحمر يوفر أكثر من 3000 ميل بحري على خط آسيا – شمال غرب أوروبا، ويختصر نحو عشرة أيام إبحار، وهو فرق ينعكس مباشرة على تكاليف الوقود، وعدد الأيام التي تظل فيها السفينة خارج الخدمة الفعلية، وعلى قدرة الخطوط على تدوير سفنها بوتيرة أعلى.
النتيجة الأعمق لهذا الاختصار لا تتعلق بالسفينة الواحدة، بل بالسعة العالمية ككل. فالمسار الطويل حول إفريقيا يستهلك حالياً جزءاً ملموساً من طاقة الأسطول العالمي، لأن السفن تمضي وقتاً أطول في البحر للوصول إلى الوجهة نفسها، ما يقلص عدد الدورات السنوية ويخلق «شحاً اصطناعياً» في السعة. عندما يعود المسار الأقصر، فإن هذه السعة ستتحرر تدريجياً، فتبدو السوق وكأنها تلقت فجأة سفناً إضافية حتى دون استلام سفن جديدة.
هذا التحرر في السعة سيتقاطع مع مشكلة أخرى تتشكل في الأفق: دخول سفن جديدة من قائمة طلبات ضخمة إلى الخدمة خلال 2026، حيث تشير ING حسب اطلاع بقش إلى أن دفتر الطلبات يمثل نسبة كبيرة من الأسطول المركب وفق بيانات كلاركسونز للخدمات البحرية والأبحاث حتى نوفمبر 2025.
وعندما يجتمع تحرير السعة الناتج عن اختصار المسارات مع تدفق سفن جديدة، فإن ميزان العرض والطلب يميل بقوة نحو فائض معروض، وهو ما يضغط على الأسعار لاحقاً.
لكن هذه الصورة ليست خطاً مستقيماً. فالعودة قد تبدأ بتجارب متقطعة وعبور محدود، ثم تتسارع عند نقطة معينة، وقد تتأخر إذا ظلت أقساط التأمين مرتفعة أو إذا بقيت التقييمات الأمنية غير مستقرة. لذلك تبقى المسألة حساسة للتوقيت، لأن التوقيت هو ما يحدد ما إذا كانت العودة ستنتج اضطراباً قابلاً للإدارة، أم فوضى تشغيلية تتدحرج عبر الموانئ وسلاسل الإمداد.
المرحلة الأولى من العودة: اضطراب الموانئ وإعادة توزيع الاختناقات
وفق قراءة بقش، تصف ING العودة بأنها خطوة منطقية على المدى البعيد، لكنها في الوقت نفسه التحدي الأكبر الذي يتجاهله كثيرون على المدى القريب. فاختصار زمن الإبحار يعني أن السفن قد تصل «مبكراً» مقارنة بالجداول التي بُنيت على الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، ما يخلق احتمالاً كبيراً لظهور ازدحام في الموانئ، ليس لأن الطلب ارتفع، بل لأن شبكة الوصول تغيرت فجأة بينما لم تتغير قدرة الأرصفة ومحطات الحاويات بالسرعة نفسها.
عندما تصل السفن قبل المتوقع، تتغير حركة الحاويات الفارغة وأماكن تموضعها، ويتأخر أو يتسارع وصولها إلى نقاط التصنيع في آسيا، ويتأثر إيقاع الشحن والتفريغ وسلاسل النقل البري والسككي داخل أوروبا. هذا النوع من «الاضطراب الشبكي» قد يؤدي إلى اختناقات متكررة، وقد تلجأ الشركات إلى إلغاء رحلات لتخفيف الضغط، لكن ذلك لن يمنع تذبذب الأسعار لفترة انتقالية.
وتزداد حساسية هذه المرحلة إذا تزامنت العودة مع مواسم الذروة، وعلى رأسها فترة ما قبل رأس السنة القمرية الصينية، حيث عادة ما تندفع الأحجام مبكراً لتأمين المخزون قبل الإجازات. في مثل هذا التوقيت، يصبح أي تغير في المسار مضاعف الأثر: الوصول المبكر يضغط على الموانئ، وتزايد الطلب يضغط على السعة، والنتيجة خليط قد يدفع الأسعار للارتفاع مؤقتاً حتى لو كانت الاتجاهات الهيكلية تميل لاحقاً للانخفاض.
في المقابل، إذا جاءت العودة في توقيت يسمح بانخفاض موسمي طبيعي في الطلب، فقد تمتص الشبكات جزءاً من الصدمة تدريجياً، ويتراجع خطر الازدحام الشديد. لكن حتى في أفضل السيناريوهات، يبقى من شبه المؤكد أن الأشهر الأولى ستشهد اضطرابات تشغيلية لا مفر منها، قبل أن تستعيد الجداول استقرارها وتبدأ السوق في تسعير الوضع الجديد.
المرحلة الثانية: بعد استقرار الجداول يبدأ هبوط الأسعار الكبير
بعد أن تتكيّف الشبكات وتستقر الجداول، ترى ING أن السوق ستواجه على الأرجح ضغطاً نزولياً قوياً على الأسعار. السبب أن تحرير السعة الناتج عن العودة سيضيف طاقة متاحة، في وقت يُتوقع أن يظل نمو أحجام الحاويات محدوداً نسبياً. ومع استمرار دخول سفن جديدة في 2026، يتحول فائض المعروض من احتمال إلى واقع يصعب مقاومته.
في هذا المشهد، حتى وفورات التشغيل التي تحققها الخطوط من تقليل الوقود واختصار زمن الرحلة قد لا تكفي لتعويض انخفاض الأسعار. فالقطاع لا يتحدد فقط بتكلفة الرحلة، بل بمدى قدرة الشركات على الحفاظ على ندرة السعة التي تمنحها قوة تسعيرية. عندما تتآكل هذه الندرة، تتراجع الأسعار بشكل قد يمحو جزءاً كبيراً من الأرباح التي أنعشتها الأزمة.
القطاع قد يحاول امتصاص الفائض عبر أدوات معروفة مثل التشغيل البطيء الذي يقلل استهلاك السعة، أو تسريع إخراج السفن القديمة من الخدمة بعد سنوات من التوقف الجزئي عن التخريد بسبب وفرة الأرباح. لكن ING ترى أن هذه الإجراءات تحتاج وقتاً ولا تعوض الفائض بالكامل، ما يعني أن السوق قد تدخل دورة هبوط سعري جديدة، خاصة إذا تراكمت السعة الجديدة بسرعة.
وهنا يظهر البعد «المالي» في قرار العودة. فالتوقيت الدقيق لاستئناف العبور ليس قراراً أمنياً فقط، بل قرار له أثر مباشر على أرباح شركات الشحن. وكلما تأخرت العودة مع بقاء الالتفافات، ظلّت الأسعار مدعومة وواصلت الأرباح التقاط أنفاسها، بينما تعني العودة العريضة أن القطاع سيبدأ في مواجهة واقع سوقي أكثر قسوة بعد أن اعتاد على هوامش مرتفعة نسبياً.
الخوف من الارتداد المزدوج والتحالفات الجديدة والتأمين
رغم أن العودة قد تصبح ممكنة خلال الأشهر الستة المقبلة وفق قراءة ING، إلا أن الشركات ليست في عجلة من أمرها. في السطح، يبرز سبب بديهي هو ضرورة ضمان سلامة السفن والبحارة والبضائع، لكن خلف ذلك أسباب تشغيلية وتجارية عميقة، لأن القطاع عاش عاماً كاملاً من إعادة هيكلة التحالفات وتحديث أنظمة الملاحة واستقرار جداول جديدة بُنيت على مسار رأس الرجاء الصالح.
الرهان الأساسي لدى الشركات الكبرى هو تجنب «الاضطراب المزدوج»، أي التحول إلى البحر الأحمر ثم العودة سريعاً إلى المسار الطويل إذا تدهورت الظروف، لأن هذا الارتداد سيكلفها ثقة العملاء ويعيد الفوضى إلى الشبكات التي بدأت تستقر. لذلك تحتاج الشركات إلى قدر من اليقين حول مدة أي تغيير، وليس مجرد نافذة مؤقتة.
هذا الاعتبار يصبح أكثر حساسية لدى تحالفات جديدة مثل شبكة جيميني بين ميرسك وهاباغ لويد التي وعدت العملاء بموثوقية وصول مرتفعة مقارنة بالمتوسط. فالتعهد بموثوقية مرتفعة لا يُختبر في البيانات فقط، بل في القدرة على تنفيذ جداول مستقرة دون مفاجآت، وأي عودة متسرعة إلى البحر الأحمر قد تهدد هذه الوعود قبل أن تُثبت الشبكة الجديدة نفسها.
ثم يأتي عامل التأمين بوصفه البوابة العملية لأي عودة. أقساط التأمين ارتفعت بشكل كبير خلال الأزمة، وحتى إذا بدأت في الانخفاض، فمن المرجح أن تتحول إلى شروط موافقة مسبقة أو ترتيبات دقيقة لكل رحلة. لهذا، وفق قراءة بقش، قد تفضّل الشركات اختبار العبور في رحلات العودة إلى آسيا بكميات أقل من البضائع وبحساسية أقل تجاه المواعيد، قبل الالتزام بخدمات رئيسية محمّلة ببضائع استهلاكية موجهة لأسواق حساسة في أوروبا.
ضجة البحر الأحمر ستبدأ في الموانئ وتنتهي في الأسعار
تضع قراءة ING سوق شحن الحاويات أمام مفارقة مزدوجة: عودة البحر الأحمر هي خبر إيجابي لسلاسل الإمداد العالمية من زاوية الكفاءة الزمنية والبيئية وخفض الوقود والانبعاثات، لكنها في الوقت نفسه صدمة انتقالية ستبدأ على الأرجح باضطراب في الموانئ والجداول، قبل أن تتحول إلى ضغط سعري طويل قد يعيد تشكيل أرباح القطاع.
العودة، إذا حدثت على نطاق واسع، ستكشف أن جزءاً كبيراً من قوة التسعير خلال الأزمة كان نتاجاً لنقص سعة «مصطنع» صنعته المسارات الأطول، ومع زوال هذا النقص سيظهر فائض السعة كاملاً، خصوصاً مع استمرار دخول سفن جديدة من دفتر الطلبات الكبير. عندها قد تتحول السوق من بيئة أرباح استثنائية إلى بيئة منافسة حادة تتطلب أدوات إدارة معروض أكثر صرامة.
أما في الحساب النهائي، فـ«متى» تعود الشركات سيكون السؤال الأكثر حسماً، لأنه لا يحدد فقط من يربح ومن يخسر بين الشركات، بل يحدد أيضاً شكل 2026: هل سيكون عاماً لإعادة الاستقرار التدريجي مع اضطراب قابل للاحتواء، أم عاماً لارتباك متتابع يتلوه هبوط سعري كبير يضغط على القطاع بعد عامين من انتعاش غير متوقع.


