تقارير
أخر الأخبار

إغلاق الحكومة الأمريكية يكشف هشاشة سوق الإسكان في واشنطن

تقارير | بقش

تواجه سوق الإسكان في العاصمة الأمريكية واحدة من أعقد لحظاتها خلال عام 2025، بعدما ترافق الإغلاق الحكومي مع توقف مدفوعات آلاف الموظفين الفيدراليين الذين كانوا يعتمدون على تعويضات إنهاء الخدمة.

هذا التوقف المفاجئ للرواتب لم يأتِ في فراغ، بل وسط سوق تعاني من تباطؤ في الطلب وزيادة حادة في المعروض، مما عمّق الضغوط على القطاع العقاري المحلي.

تشير بيانات اطلع عليها بقش لمكتب إدارة شؤون الموظفين إلى أن ثلثي 154 ألف موظف تلقوا هذه التعويضات مطلع العام توقفت رواتبهم هذا الأسبوع، فيما سيتوقف صرف المستحقات لبقية الموظفين مع نهاية العام الجاري.

هذه المدفوعات كانت تمثل وسادة مالية مؤقتة ساعدت العديد من الأسر على تحمل تكاليف المعيشة المرتفعة في العاصمة، وغيابها يترك فجوة مالية يصعب تعويضها بسرعة.

يتوقع اقتصاديون أن يدفع هذا التراجع المفاجئ في الدخل العديد من العاملين إلى البحث عن وظائف في ولايات أو مدن أخرى بتكاليف معيشة أقل، ما يعني تراجعاً في الطلب على السكن في العاصمة وازدياد المعروض، وبالتالي ضغوطاً متراكمة على السوق العقارية في المدى القصير.

تسريحات محتملة وقلق وظيفي يهددان الاستقرار السكني

لا تقتصر التداعيات على انقطاع الرواتب فقط، إذ طلب مكتب الميزانية في البيت الأبيض من الوكالات الفيدرالية وضع خطط لتقليص دائم في أعداد الموظفين.

هذا التوجه أثار مخاوف من أن يتحول الإغلاق الحكومي إلى نقطة انطلاق لموجة تسريح أوسع، وهو ما قد يغير ملامح سوق العمل والإسكان في واشنطن على حد سواء.

ليزا ستيرتفانت، كبيرة الاقتصاديين في شركة «برايت إم إل إس» المتخصصة بالبيانات العقارية، أوضحت حسب قراءة بقش أن حالة القلق بين العاملين الفيدراليين لا تزال مرتفعة، مضيفة أن «ما حدث بعد الإغلاق ليس نهاية المطاف، بل ربما بدايته».

هذا الشعور بعدم اليقين يجعل كثيراً من الموظفين يتجنبون الالتزامات المالية الكبيرة، وعلى رأسها شراء العقارات أو الاستثمار في السوق المحلية.

واشنطن، بحكم طبيعتها الاقتصادية المعتمدة على الوظائف الحكومية، تعيش في مثل هذه الفترات حالة من الترقب والجمود. فكلما زادت المخاوف من فقدان الوظائف أو تقليص الرواتب، انكمش الطلب العقاري، وتأثرت مؤشرات البيع والشراء بشكل مباشر.

السوق بين تراجع الطلب وتكدس المعروض

الأرقام الحديثة التي طالعها بقش ترسم صورة واضحة لتباطؤ النشاط السكني. فقد سجلت مبيعات المنازل في العاصمة والمناطق المحيطة بها تراجعاً نسبته 0.9% خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2025 مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق. هذا الانخفاض، رغم أنه يبدو محدوداً، يُعد مؤشراً على بداية تحول أعمق في اتجاهات السوق.

في المقابل، شهدت القوائم النشطة المعروضة للبيع ارتفاعاً استثنائياً بلغ 54.7% في أغسطس، وهو الأعلى بين أكبر 50 منطقة حضرية في الولايات المتحدة، وفقاً لمنصة «رييلتر دوت كوم». هذه القفزة ليست ناتجة عن انتعاش في البناء، بل عن تراكم عقارات معروضة لا تجد مشترين، ما يعكس فجوة واضحة بين العرض والطلب.

كما ارتفع متوسط المدة التي تبقى فيها المنازل في السوق قبل أن تباع، وهو مؤشر إضافي على فتور الطلب. هذا الوضع يُربك الوكلاء العقاريين ويضغط على البائعين، بينما يقف المشترون في موقف المتردد الحذر بانتظار وضوح الصورة الاقتصادية والوظيفية.

الرهون العقارية المنخفضة تخفف الصدمة مؤقتاً

على الرغم من هذه المؤشرات السلبية، فإن الأسعار لم تشهد انخفاضات كبيرة حتى الآن. السبب يعود إلى أن أكثر من 60% من الأسر في العاصمة لديها قروض عقارية بأسعار فائدة تقل عن 4%، مقارنة بـ53% فقط على مستوى البلاد، وفق بيانات تتبَّعها بقش من «إنتركونتيننتال إكستشينج». هذا العامل يمنح السوق مرونة نسبية في مواجهة الضغوط الحالية.

مع ارتفاع معدلات الفائدة الجديدة إلى ما يفوق 6%، أصبح من غير المنطقي بالنسبة لكثير من الملاك بيع منازلهم والانتقال إلى شراء عقارات جديدة بقروض أعلى تكلفة. هذه الحسابات العملية تدفعهم للبقاء في منازلهم الحالية، مما يقلل من حجم المعروض القابل للبيع بشكل فعلي، ويحول دون هبوط حاد في الأسعار.

لكن هذه المرونة ليست ضمانة طويلة الأمد. فاستمرار الضغوط الوظيفية والمالية قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير في سلوك الملاك، خاصة إذا استمرت حالة عدم اليقين أو ارتفعت تكاليف المعيشة في المدينة.

الشقق السكنية.. القطاع الأكثر تأثراً

قطاع الشقق (الكوندو) هو الأكثر معاناة ضمن سوق الإسكان الحالية. ارتفاع رسوم الجمعيات السكنية، إلى جانب حالة الغموض الاقتصادي، جعل المشترين أكثر حذراً وأطول تردداً في اتخاذ قرارات الشراء. نتيجة لذلك، تستغرق عمليات البيع في هذا القطاع فترات أطول بكثير مقارنة بالعقارات التقليدية.

جاستن ليفيتش، رئيس شركة «آر إل إيه إتش آت بروبرتيز»، أكد أن السوق دخلت عام 2025 بحالة ضعف، وأن الظروف الاقتصادية والسياسية زادت الطين بلة مع مرور الوقت. هذه التصريحات تعكس واقعاً مفاده أن القطاع الذي كان يمثل محركاً مهماً للنشاط العقاري في العاصمة أصبح الآن عبئاً إضافياً على السوق.

العوائق التمويلية والإدارية المرتبطة بالشقق، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الصيانة، تجعل البائعين مترددين في خفض الأسعار، والمشترين مترددين في الالتزام بعقود طويلة الأمد، ما يخلق حلقة ركود يصعب كسرها سريعاً.

الأسابيع الخمسة المنتهية في 21 سبتمبر شهدت تراجعًا بنسبة 6.9% في زيارات المنازل المعروضة للبيع داخل العاصمة، وانخفاضاً بنحو 13% في العقود المعلقة الجديدة، حسب اطلاع بقش على بيانات «برايت إم إل إس». هذه المؤشرات تزامنت مع انتشار الحرس الوطني في المدينة بأمر من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في مشهد سياسي وأمني متوتر انعكس فوراً على سلوك المشترين.

اللافت أن الضواحي المحيطة لم تشهد التراجع ذاته، ما يشير إلى أن الانكماش يتمركز داخل العاصمة نفسها. هذا التباين يعكس فقدان ثقة شريحة من المشترين في استقرار البيئة السياسية والاقتصادية داخل المدينة، مقابل نظرة أكثر هدوءًا للمناطق المحيطة.

العوامل السياسية والأمنية غالباً ما تُهمل في التحليلات العقارية قصيرة المدى، لكنها في حالة واشنطن تمثل مكوناً رئيسياً في قرارات الشراء، نظراً لحساسية المدينة وموقعها كمركز للقرار الفيدرالي.

المالكون يفضلون الانتظار بدلاً من البيع بخسارة

على الرغم من هذه التحديات، لا يتوقع الخبراء موجة بيع قسرية واسعة النطاق. كثير من الملاك في واشنطن يمتلكون حصصاً مرتفعة من الأسهم العقارية في منازلهم، مما يمنحهم قدرة على تحمل الضغوط الحالية دون اللجوء إلى البيع السريع أو بخسارة.

الوكيل العقاري آراش شيرازي أوضح أن عدداً كبيراً من السكان يفضلون تأجيل قرارات البيع إلى حين تحسن الظروف، خصوصاً مع توقع انتعاش النشاط العقاري مع حلول الربيع المقبل، وهو الموسم الذي تشهد فيه السوق عادة ذروتها السنوية.

هذه الاستراتيجية الدفاعية من جانب الملاك تعني أن السوق قد تظل في حالة ركود لفترة، مع ثبات نسبي للأسعار، بانتظار تحسن سياسي واقتصادي يعيد التوازن إلى العرض والطلب.

يكشف الإغلاق الحكومي الأمريكي الحالي عن هشاشة سوق الإسكان في العاصمة أمام الصدمات المتزامنة: مالية ووظيفية وسياسية. فمع تراجع الطلب، وتراكم المعروض، وثبات الأسعار بفعل الرهون منخفضة الفائدة، تدخل السوق مرحلة «جمود ضاغط» يصعب كسرها دون تغيّر في البيئة الكلية.

إذا استمرت الأوضاع الراهنة، قد يشهد عام 2026 مزيدًا من التباطؤ وربما بداية تصحيح سعري محدود. أما في حال حدوث انفراج مالي وسياسي، فقد تستعيد السوق جزءا من نشاطها تدريجياً مع حلول الربيع المقبل، بدعم من قاعدة طلب مكبوتة تنتظر الوضوح.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش