الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

اتفاق الصين والآسيان 3.0.. اقتصاد مفتوح في بحرٍ مضطرب بالرسوم والنزاعات البحرية

الاقتصاد العالمي | بقش

في لحظة تتقاطع فيها التجارة بالسياسة، والاقتصاد بالملاحة البحرية، أبرمت الصين ودول رابطة جنوب شرق آسيا (الآسيان) اتفاقية تجارة حرة مطوّرة تُعرف باسم النسخة 3.0، خلال قمة القادة في كوالالمبور، لتشكل مرحلة جديدة في معادلة القوة الاقتصادية في آسيا.

الاتفاق الجديد، الذي يأتي بعد ثلاث سنوات من المفاوضات، ليس مجرد تحديثٍ تقني لاتفاق سابق، بل محاولة لإعادة ترتيب المشهد التجاري في ظل تصاعد الحروب الاقتصادية بين واشنطن وبكين.

جاء التوقيع وفق اطلاع مرصد “بقش” بينما تشهد العلاقات بين الصين والولايات المتحدة واحدة من أشد موجات التوتر التجاري في العقدين الأخيرين، بعد أن فرضت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسوماً جمركية باهظة على السلع الصينية وعلى صادرات من عدة دول آسيوية.

وردّت بكين بتوسيع ضوابطها على المعادن الأرضية النادرة، التي تمثل فيها أكثر من 90% من الطاقة الإنتاجية العالمية حسب قراءة بقش، مما جعلها لاعباً حاسماً في التحكم بسلاسل الإمداد العالمية.

وفي هذا السياق، تحاول الصين استخدام التعاون الإقليمي كدرع واقٍ من الضغوط الغربية. فهي لا تعوّل على مفاوضات متعثّرة أو هدَن مؤقتة، بقدر ما تراهن على خلق سوق آسيوي مترابط اقتصادياً، يمتد من المحيط الهادئ إلى خليج البنغال، يكون قادراً على امتصاص الصدمات الأمريكية وتخفيف أثرها.

شراكة اقتصادية في مواجهة الرسوم الأمريكية

وقّع القادة، صباح اليوم الثلاثاء، النسخة المحدثة من اتفاقية التجارة الحرة بين الصين والآسيان، بحضور رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ وعدد من قادة المنطقة، بينما كان ترامب قد غادر ماليزيا بعد ساعات من ختام المفاوضات التجارية الثنائية.

ويُنظر إلى الاتفاقية الجديدة بوصفها رداً اقتصادياً منظماً على سياسة الرسوم الجمركية التي انتهجتها واشنطن، إذ تتيح حرية أوسع في تدفق السلع والخدمات والاستثمارات داخل آسيا، وتُدخل للمرة الأولى بنوداً خاصة بالاقتصاد الرقمي والاقتصاد الأخضر والصناعات التقنية الجديدة.

وقال لي تشيانغ في كلمته خلال القمة إن على الدول “تسريع تحرير التجارة والاستثمار وتعزيز التكامل الصناعي والاعتماد المتبادل”، داعياً إلى “دعم نظام التجارة الحرة بحزم أكبر، وإنشاء شبكة تجارة حرة إقليمية عالية المستوى”. وأشار إلى أن “العالم لا يجب أن يعود إلى شريعة الغاب حيث يستغل القوي الضعيف”، في رسالة واضحة إلى الإدارة الأمريكية.

من جانبه، أوضح لورانس وونغ، رئيس وزراء سنغافورة، أن الاتفاقية “تفتح الباب لمرحلة جديدة من التعاون الصناعي والتكنولوجي، وتقلل الحواجز أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة”، مؤكداً أنها “ستربط الاقتصادات الإقليمية في شبكة أكثر مرونة أمام الصدمات الخارجية”.

ويمثل الاتفاق بذلك تحوّلاً من نموذج “الاستيراد من الصين” إلى نموذج “الإنتاج المشترك معها”، وهو ما تعتبره بكين السبيل الأمثل لتقليص اعتمادها على الأسواق الغربية.

هدنة في الحرب التجارية

منذ بداية العام، تخوض الصين حرباً تجارية متصاعدة مع واشنطن بعد أن وسّعت إدارة ترامب تعريفاتها الجمركية لتشمل واردات من شرق آسيا بأكمله، بما في ذلك الفولاذ، والمعادن الحيوية، والسلع التكنولوجية.

ورغم اللهجة العدائية بين الجانبين، فقد جرى تمديد هدنة تجارية قصيرة نهاية الأسبوع في كوالالمبور، بعد لقاء جمع المفاوضين الأمريكيين والصينيين على هامش قمة الآسيان، واتفاقهم على طرح التفاهم النهائي خلال اللقاء المرتقب بين ترامب والرئيس الصيني تشي جين بينغ في سيول لاحقاً هذا الأسبوع.

ورغم أن هذه الهدنة قد تؤجل المواجهة، فإنها لا تُخفي التباين العميق في الرؤى بين أكبر اقتصادين في العالم. بكين ترى في الرسوم الجمركية “سياسة حمائية تعيد النظام التجاري إلى الخلف”، بينما تصر واشنطن على أنها وسيلة “لتصحيح الخلل التجاري العالمي” الذي استفادت منه الصين لعقود.

في الوقت ذاته، يواصل الاقتصاد الآسيوي التحرك نحو تحالفات موازية تقلل من النفوذ الأمريكي. وصرّح رئيس الوزراء الماليزي تينغكو ظافرول عزيز حسب اطلاع بقش بأن اتفاقية الصين–الآسيان “تمنح المنطقة بديلاً عملياً عن أنظمة التجارة القائمة على العقوبات”، مشيراً إلى أن “المنطقة بحاجة إلى سوق يضع النمو فوق الصراع”.

الصين والآسيان.. طريق جديد في خريطة التجارة

وتُعدّ رابطة آسيان، المكوّنة من إحدى عشرة دولة، أكبر شريك تجاري للصين، إذ بلغ حجم التجارة الثنائية بينهما أكثر من 770 مليار دولار العام الماضي، وهو رقم يتجاوز حجم تجارة بكين مع الاتحاد الأوروبي.

وتمثل النسخة 3.0 من الاتفاقية امتداداً للاتفاق الأصلي الذي دخل حيّز التنفيذ عام 2010، لكنها توسّع نطاقها لتشمل قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا الخضراء، والذكاء الاصطناعي، والزراعة الذكية، والصناعات الطبية.

تُعطي الاتفاقية أيضاً مساحة أوسع للاستثمار المتبادل في البنية التحتية والاتصال اللوجستي، خصوصاً في مجالات الموانئ والسكك الحديدية والبيانات الرقمية، ما ينسجم مع مبادرة “الحزام والطريق” التي تسعى من خلالها بكين إلى ربط آسيا ببقية العالم عبر شبكات تجارية وتمويلية ضخمة.

ويرى محللون أن بكين تحاول من خلال هذه الخطوة تحويل الضغط الأمريكي إلى فرصة لإعادة تشكيل النظام التجاري الإقليمي، بحيث تصبح آسيا أكثر استقلالاً في قراراتها الاقتصادية، حتى وإن بقيت الروابط السياسية مع الغرب قائمة.

بحر الصين الجنوبي.. اختبار التفاهم في ظل الانفتاح

على الرغم من الطابع الاقتصادي للاتفاقية، فإن التوترات الجيوسياسية لم تغب عن المشهد. فقد وجّه الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس جونيور انتقادات مباشرة إلى “العدوان الصيني” في بحر الصين الجنوبي، بعد سلسلة من المواجهات البحرية بين البلدين، بينما ردّت بكين بأن الاشتباكات جاءت نتيجة “استفزازات من مانيلا”.

تطالب الصين بمعظم الممر المائي الغني بالموارد في خرائطها الرسمية، في حين تتداخل مطالبها مع المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من الفلبين وماليزيا وبروناي وإندونيسيا وفيتنام.

وقال لي تشيانغ في خطابه: “يجب أن نعزز الثقة المتبادلة الاستراتيجية، وأن نسرع المشاورات حول مدونة قواعد السلوك في بحر الصين الجنوبي”، مضيفاً أن “السلام والاستقرار وحرية الملاحة والتحليق الجوي أمور بالغة الأهمية في هذا الممر المائي المهم”.

كما أشار رئيس وزراء سنغافورة لورانس وونغ إلى أن “الخلافات في وجهات النظر ستظل قائمة، لكن التفاهم حول المصالح المشتركة يظل الخيار الوحيد للحفاظ على النمو”.

وبينما تُعقد اتفاقيات التجارة في القاعات، يبقى بحر الصين الجنوبي بمثابة الامتحان الحقيقي لقدرة آسيا على الفصل بين النزاعات والسياسات الاقتصادية.

نحو توازن آسيوي جديد

تُظهر الاتفاقية المحدثة أن بكين تراهن على اقتصاد متكامل يتجاوز الحدود السياسية، حيث تتشابك مصالحها مع اقتصادات آسيان التي تمثل نحو 3.8 تريليونات دولار من الناتج الإجمالي وفق تتبع بقش للبيانات المتوفرة.

لكن هذه الرؤية تواجه تحدياً مزدوجاً: مقاومة النفوذ الأمريكي من جهة، واحتواء التوترات الإقليمية من جهة أخرى. فالمنطقة باتت اليوم ساحة تفاعل بين الانفتاح التجاري والاحتقان العسكري، ما يجعل كل خطوة اقتصادية مرهونة بتفاهم سياسي ضمني.

في نهاية المطاف، لا تحمل النسخة 3.0 من اتفاقية الصين–الآسيان مجرد بنودٍ اقتصادية، بل رؤيةً لبنية آسيوية تحاول النجاة من عواصف واشنطن البحرية والجمركية معاً.

وبينما تحاول بكين تسويق الاتفاق بوصفه “انتصاراً للتعاون”، يرى مراقبون أنه هدنة اقتصادية مؤقتة أكثر من كونه تحولاً استراتيجيّاً دائمًا. فآسيا – حتى الآن – لم تحسم وجهتها بين قطبي العالم: واشنطن وبكين.

زر الذهاب إلى الأعلى