ازدهار من الأعلى وقلق في العمق: كيف تعكس صفقات 2025 خلل سوق التكنولوجيا الإسرائيلية؟

تقارير | بقش
في مشهد يبدو للوهلة الأولى زاخراً بالأرقام القياسية والصفقات المليارية، يكشف واقع قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي في عام 2025 عن صورة مزدوجة ومعقّدة، تختلط فيها مؤشرات الازدهار السريع بعلامات خلل بنيوي عميق، وفق اطلاع “بقش” على تقرير التخارج السنوي الصادر عن شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” (PwC) في إسرائيل.
سجلت شركات التكنولوجيا الإسرائيلية ارتفاعاً ملحوظاً في عمليات التخارج خلال 2025، مدفوعة بصفقات ضخمة وزيادة غير مسبوقة في الاكتتابات العامة الأولية. فقد قفزت قيمة صفقات التخارج بنسبة 340% لتصل إلى نحو 59 مليار دولار، مقارنة بـ13.4 مليار دولار في عام 2024.
وحتى عند استثناء صفقة الاستحواذ العملاقة لشركة ألفابت المالكة لغوغل على شركة «ويز» الإسرائيلية للأمن السيبراني بقيمة 32 مليار دولار، فإن إجمالي قيمة الصفقات لا يزال قد تضاعف تقريباً ليبلغ 32 مليار دولار.
هذا النمو الاستثنائي في القيم ترافق مع سبع عمليات اكتتاب عام أولي بلغت قيمتها الإجمالية 14.6 مليار دولار، مقارنة بـ781 مليون دولار فقط من ستة اكتتابات في 2024 حسب مراجعة بقش، في مؤشر على قوة طلب المستثمرين على التكنولوجيا الإسرائيلية، رغم الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وما تفرضه من مخاطر جيوسياسية واقتصادية.
سوق منقسمة: صفقات عملاقة واستحواذات سريعة
لكن خلف هذه الأرقام اللامعة، يبرز واقع أكثر تعقيداً، فوفق موقع كالكاليست الإسرائيلي تبدو السوق منقسمة: شريحة عليا تهيمن عليها صفقات ضخمة بمليارات الدولارات، في مقابل انتشار عمليات استحواذ صغيرة وسريعة على شركات ناشئة، لا سيما تلك المتخصصة في الذكاء الاصطناعي.
وتشير هذه المعادلة إلى خلل في بنية السوق، إذ لم تعد الشركات الناشئة تراهن على التوسع طويل الأمد وبناء شركات مستقلة قادرة على المنافسة العالمية، بل تتجه مبكراً نحو الاندماج أو البيع لمؤسسات كبرى سعياً إلى ربح مضمون وسريع، ما قد يحدّ من الابتكار العميق ويضعف قدرة القطاع على إنتاج عمالقة جدد على المدى البعيد.
وقد رصدت PwC في إسرائيل 22 صفقة استحواذ لشركات ناشئة، نصفها تقريباً في مجال الذكاء الاصطناعي، ومعظمها بقيمة تقل عن 50 مليون دولار، وغالباً لشركات تأسست منذ أقل من ثلاث سنوات، وهو ما يعكس تسارع وتيرة “الالتقاط المبكر” للأفكار والتقنيات الواعدة.
هيمنة أمريكية وتحول نحو الداخل
على صعيد الجهات الفاعلة، واصلت الشركات الأمريكية هيمنتها على مشهد الصفقات، إذ نفذت 43 صفقة، تمثل 51% من إجمالي عدد الصفقات، بقيمة بلغت 51 مليار دولار. وجاءت الشركات الأوروبية والأسترالية بمشاركة أقل بكثير.
في المقابل، سلط التقرير الضوء على تحول لافت نحو النشاط المحلي، حيث تضاعف عدد صفقات “الأزرق والأبيض” –أي الصفقات التي تضم مشترين وبائعين إسرائيليين– من 15 صفقة في عام 2024 إلى 30 صفقة في عام 2025 وفق قراءة بقش.
لكن هذا التوسع العددي ترافق مع انخفاض حاد في القيمة الإجمالية لتلك الصفقات بنسبة 41%، لتصل إلى 1.9 مليار دولار فقط، ما يعكس نشاطاً محلياً كثيفاً لكنه محدود القيمة، ويعزز صورة السوق المنقسمة بين كثرة العمليات وصِغر أحجامها من جهة، وقلة الصفقات العملاقة من جهة أخرى.
ومن المؤشرات اللافتة التي أوردها تقرير PwC، الانخفاض الواضح في عدد وقيمة الصفقات متوسطة الحجم، التي تتراوح بين 100 و500 مليون دولار، مقابل زيادة في الصفقات الصغيرة جداً والصفقات الضخمة التي تتجاوز المليار دولار.
ويُعد غياب “الطبقة الوسطى” من الصفقات علامة تقليدية على سوق غير متوازنة، تعتمد إما على بيع سريع لشركات صغيرة أو على نجاحات استثنائية قليلة تضخم الأرقام الإجمالية.
وخلال العام، شهد القطاع ست صفقات استحواذ تجاوزت قيمتها مليار دولار، من بينها شراء شركتي التكنولوجيا المالية “نيكست إنشورانس” مقابل 2.6 مليار دولار، و”مليو” مقابل 2.5 مليار دولار، إضافة إلى إدراج أسهم شركة “نافان” بقيمة 6.2 مليارات دولار، وأسهم شركة “إيتورو” بقيمة 4.4 مليارات دولار في بورصة ناسداك الأمريكية.
وقطاعياً، ظلّ الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي الأكثر نشاطاً من حيث عدد الصفقات. فقد سجل قطاع الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية 20 صفقة بقيمة إجمالية بلغت 1.5 مليار دولار، في حين بلغ عدد صفقات الأمن السيبراني 19 صفقة، لكن بقيمة ضخمة وصلت إلى 34 مليار دولار، يعود الجزء الأكبر منها إلى صفقة “ويز”.
وفي المقابل، برز قطاع التكنولوجيا المالية كمحرك رئيسي للقيمة، مسجلاً 16 صفقة بقيمة إجمالية بلغت 16.4 مليار دولار، شملت عدداً من الاكتتابات العامة الأولية.
في المحصلة، لا يعكس مشهد التكنولوجيا الإسرائيلية في 2025 قصة نجاح خالصة بقدر ما يكشف عن توازن هش بين وفرة رأس المال وسرعة التخارج من جهة، وتراجع الرهان على البناء طويل الأمد من جهة أخرى.
فبينما ترفع الصفقات المليارية والاكتتابات الضخمة سقف الأرقام وتمنح السوق زخماً دولياً، تتآكل في العمق قدرة الشركات الناشئة على التحول إلى كيانات مستقلة وقادرة على قيادة النمو المستدام.
ومع استمرار الحرب والضغوط الجيوسياسية، يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كان هذا النمو السريع يمثل قوة كامنة قابلة للتجدد، أم مجرد طفرة ظرفية تُدار بمنطق الربح العاجل أكثر من بناء اقتصاد تكنولوجي متماسك على المدى البعيد.


