اعتراف يتجاوز الدبلوماسية: لماذا يُعدّ تحرّك إسرائيل نحو “أرض الصومال” مقامرة جيوسياسية خطرة في البحر الأحمر؟

تقارير | بقش
لم يكن إعلان إسرائيل الاعتراف بـ«أرض الصومال» خطوة بروتوكولية معزولة أو حدثاً دبلوماسياً عادياً، بل يمثل تطوراً بالغ الحساسية في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة وتعقيداً: القرن الإفريقي والبحر الأحمر. فالقرار الذي تابعه “بقش” يأتي في لحظة إقليمية مشحونة، أعقبت حرباً أعادت رسم موازين الردع في الممرات البحرية، وأثبتت أن السيطرة على الجغرافيا السياسية لم تعد حكراً على القوى التقليدية.
هذا الاعتراف، الذي تم تسويقه إسرائيلياً بوصفه امتداداً لـ«اتفاقيات أبراهام»، يحمل في جوهره أبعاداً أمنية وبحرية تتجاوز بكثير خطاب «التعاون الاقتصادي» و«الازدهار المشترك». فإسرائيل، التي تكبّدت خسائر اقتصادية ولوجستية فادحة بعد تعطّل ميناء إيلات وحظر الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر خلال الحرب الأخيرة، تبحث اليوم عن مخارج استراتيجية لتعويض ما خسرته بالقوة.
التحرك نحو «أرض الصومال» لا يمكن فصله عن هذا السياق. فالموقع الجغرافي للإقليم، المطل على خليج عدن وبالقرب من مضيق باب المندب، يضعه في قلب الصراع غير المعلن على خطوط التجارة والطاقة. وبالنسبة لإسرائيل، التي وجدت نفسها للمرة الأولى منذ عقود معزولة بحرياً بفعل عمليات قوات صنعاء، يصبح أي موطئ قدم على الضفة الإفريقية للبحر الأحمر مكسباً استراتيجياً محتملاً.
لكن هذا المسار لا يخلو من مخاطر جسيمة، ليس فقط على وحدة الصومال، بل على أمن المنطقة برمتها، وعلى دول مناهضة لإسرائيل، وفي مقدمتها اليمن، التي أثبتت خلال الحرب الأخيرة قدرتها على فرض معادلات ردع بحرية قلبت الحسابات الإسرائيلية رأساً على عقب.
خلال الحرب الأخيرة، تكشّفت هشاشة العمق البحري الإسرائيلي على نحو غير مسبوق. فإغلاق عملي لممرات الملاحة المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، وتعطّل حركة السفن المتجهة إلى إيلات، شكّل ضربة مباشرة للاقتصاد الإسرائيلي وفق تناولات “بقش”، وأخرج الميناء الجنوبي الوحيد على البحر الأحمر من الخدمة الفعلية لفترات طويلة.
هذه الخسائر لم تكن رمزية. فقد تضررت سلاسل الإمداد، وارتفعت تكاليف التأمين والشحن، واضطرت شركات إسرائيلية إلى إعادة توجيه تجارتها عبر مسارات أطول وأكثر كلفة. والأهم من ذلك، أن إسرائيل وجدت نفسها أمام حقيقة استراتيجية صادمة: قدرتها على حماية خطوطها البحرية ليست مطلقة.
في هذا السياق، يبدو الاعتراف بـ«أرض الصومال» محاولة لتعويض الخلل عبر توسيع الحضور في الضفة المقابلة من البحر الأحمر، وفتح قنوات نفوذ جديدة قد تُستخدم مستقبلاً لأغراض لوجستية أو استخباراتية أو حتى عسكرية، وإن جرى تغليفها حالياً بلغة التعاون المدني.
غير أن هذا الرهان يحمل في طياته تصعيداً غير مباشر مع قوى إقليمية فاعلة، وفي مقدمتها اليمن، التي باتت ترى أي تمدد إسرائيلي في محيط باب المندب جزءاً من معركة أوسع على أمن البحر الأحمر، وليس شأناً ثنائياً مع كيان معزول جغرافياً.
تفكيك الدول كأداة نفوذ: سابقة السودان تعود بثوب جديد
لا يمكن قراءة خطوة إسرائيل تجاه «أرض الصومال» بمعزل عن تاريخ طويل من توظيف الانقسامات الداخلية في الدول الإفريقية والعربية لخدمة أهداف استراتيجية. فإسرائيل كانت من أوائل الداعمين لانفصال جنوب السودان، وهو انفصال أعاد رسم الخريطة السياسية للقرن الإفريقي، لكنه ترك دولة هشة غارقة في النزاعات، ومحيطاً إقليمياً أقل استقراراً.
اليوم، يتكرر النمط ذاته بصورة مختلفة. فبدلاً من دعم وحدة الدول القائمة، يجري التعامل مع الكيانات الانفصالية بوصفها شركاء محتملين، في خطوة تُضعف سيادة الدول المركزية، وتفتح الباب أمام صراعات طويلة الأمد. هذا النهج لا يخلق استقراراً حقيقياً، بل يؤسس لخرائط رخوة قابلة للاشتعال عند أول صدمة.
بالنسبة لدول البحر الأحمر، وعلى رأسها اليمن، فإن هذا المسار يُنظر إليه كجزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تطويق الممرات البحرية عبر نقاط نفوذ متناثرة، وليس عبر سيطرة مباشرة. وهو ما يفسّر الحساسية العالية التي قوبل بها الاعتراف الإسرائيلي من قبل دول إقليمية مثل مصر وتركيا وجيبوتي، التي ترى في هذه الخطوة تهديداً مباشراً لتوازنات القرن الإفريقي.
اليمن والبحر الأحمر: معادلة ردع جديدة لا يمكن تجاهلها
ما غيّر قواعد اللعبة في المنطقة ليس الاعتراف بحد ذاته، بل التوقيت. فإسرائيل تتحرك اليوم في بيئة إقليمية مختلفة جذرياً عما كانت عليه قبل سنوات. البحر الأحمر لم يعد ممراً آمناً بلا كلفة، واليمن لم يعد ساحة هامشية يمكن تجاوزها في الحسابات الاستراتيجية.
العمليات التي نفذتها قوات صنعاء خلال الحرب الأخيرة أثبتت أن التحكم بالممرات البحرية لا يتطلب أساطيل تقليدية ضخمة، بل إرادة سياسية وقدرات غير متماثلة قادرة على تعطيل الخصم اقتصادياً. هذا التحول يجعل أي تمدد إسرائيلي في القرن الإفريقي عرضة لمعادلات ردع غير مباشرة، حتى لو لم يكن اليمن طرفاً معلناً في تلك الترتيبات.
من هذا المنظور، فإن الاعتراف بـ«أرض الصومال» قد لا يكون تعزيزاً للأمن الإسرائيلي، بقدر ما هو فتح لجبهة جيوسياسية جديدة في محيط بالغ الحساسية حسب قراءة بقش، حيث تتقاطع مصالح دولية وإقليمية، وحيث باتت إسرائيل تواجه خصوماً لا يمكن احتواؤهم عبر الأدوات التقليدية.
يحاول الكيان الإسرائيلي تقديم اعترافه بـ«أرض الصومال» بوصفه خطوة نحو السلام والتنمية، لكن القراءة الأعمق تكشف عن محاولة لإعادة التموضع بعد خسائر استراتيجية مؤلمة في البحر الأحمر. غير أن التاريخ القريب يُظهر أن تغذية الانقسامات وتجاهل موازين القوى الجديدة نادراً ما ينتج أمناً دائماً.
في بيئة إقليمية تشهد تصاعداً في أدوار فاعلين غير تقليديين، وفي ظل تجربة يمنية أثبتت أن السيطرة البحرية ليست امتيازاً حصرياً للقوى الكبرى، يبدو أن هذا الاعتراف قد يضيف طبقة جديدة من عدم الاستقرار، بدل أن يوفر لإسرائيل المخرج الذي تبحث عنه.
وبينما تواصل تل أبيب البحث عن بدائل لتعويض خسائرها، يبقى السؤال الأوسع مفتوحاً: هل يمكن لإعادة رسم الخرائط السياسية في القرن الإفريقي أن تحصّن الأمن، أم أنها ستسرّع انتقال الصراع إلى مساحات أوسع وأكثر تعقيداً؟


