
تقارير | بقش
في أعقاب وقف إطلاق النار في غزة، لم تُغلق الحرب ملفاتها عند حدود الميدان العسكري، بل فتحت على مصراعيها سجلاً ثقيلاً من التداعيات الاقتصادية العميقة داخل إسرائيل.
فالتقارير الاقتصادية والسياسية الإسرائيلية، التي يتابعها مرصد “بقش” وتصدر بكثافة منذ بداية ديسمبر الجاري، تكشف عن صورة مقلقة لاقتصاد أُنهك بفعل حرب طويلة وشاملة ومكلفة، حتى بات، وفق توصيف مجلة +972 الاستقصائية، أقرب إلى ما يُعرف بـ”اقتصاد الزومبي”، أي إنه اقتصاد يبدو حياً في المؤشرات السطحية، لكنه فاقد للقدرة على الاستمرار أو التجدد.
من “اقتصاد طوارئ” إلى “اقتصاد زومبي”
منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، دخل الاقتصاد الإسرائيلي في حالة تعبئة شاملة، حُوِّل فيها الكيان إلى ما يشبه اقتصاد حرب دائم.
عشرات الآلاف من الإسرائيليين نزحوا من المناطق الحدودية في الجنوب والشمال، فيما تم استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط لفترات طويلة، ما أحدث فجوة حادة في سوق العمل، ونقصاً كبيراً في الكوادر البشرية، وانخفاضاً ملحوظاً في الإنتاجية.
في الوقت نفسه، حُوِّلت الأولويات الحكومية بصورة شبه كاملة نحو المجهود الحربي، على حساب الخدمات العامة، والتعليم، والرعاية الصحية. وهذا التحول أدى إلى إفلاس نحو 50 ألف شركة، وتراجع واضح في جودة الخدمات الأساسية، وبدء تآكل الثقة بالاقتصاد على المدى المتوسط والبعيد.
الاقتصادي الإسرائيلي شير هيفر، الذي درس على مدى عقدين العلاقة البنيوية بين العسكرة والاقتصاد الإسرائيلي، يفسّر هذه الحالة بوصفها “اقتصاد زومبي”، أي اقتصاد يتحرك بفعل الإنفاق العسكري والائتمان الأجنبي والإنكار السياسي، لكنه فقد ركائز النمو الحقيقية.
فالمؤشرات التقليدية، كالناتج المحلي الإجمالي أو معدلات التضخم، لم تعد قادرة على عكس عمق الأزمة، لأن الأسس التي قامت عليها الطفرة الاقتصادية الإسرائيلية سابقاً –الاستثمار الأجنبي، الابتكار التكنولوجي، والاندماج في الاقتصاد العالمي– بدأت بالتآكل بشكل واضح.
أحد أكثر جوانب الأزمة إثارة للانتباه هو التناقض الصارخ بين ازدهار ظاهري في الأسواق، وارتفاع قيمة الشيكل، وصعود بورصة تل أبيب من جهة، وبين تفاقم الاضطرابات الاجتماعية واتساع رقعة الفقر من جهة أخرى.
فوفق تقرير الفقر السنوي الذي اطلع عليه بقش والصادر عن منظمة “لاتيت” الإسرائيلية في 08 ديسمبر الجاري، ارتفعت نسبة الفقر لتطال 27% من الأسر الإسرائيلية.
ويفسر هيفر هذه المفارقة بأن الحرب نفسها تحولت إلى النشاط الاقتصادي الرئيسي للدولة. فالتعبئة الواسعة لجنود الاحتياط، وتسليحهم، وتجهيزهم، وإطعامهم، ونقلهم، تخلق حركة مالية ضخمة تعطي انطباعاً زائفاً بالحيوية الاقتصادية. غير أن هذا “الازدهار” لا يقوم على استثمار منتج يدر أرباحاً مستقبلية، بل على إنفاق استهلاكي عسكري يمول بالديون.
ستة أضرار تضرب قلب الاقتصاد الإسرائيلي
وفق التحليل الاقتصادي الإسرائيلي، يمكن تلخيص أبرز الأضرار التي لحقت بالاقتصاد في ستة محاور رئيسية.
أولاً: تراجع الإنتاجية بشكل مباشر، فنزوح عشرات الآلاف من الأسر من المناطق القريبة من غزة ولبنان، إضافةً إلى الأضرار المادية التي خلفتها الصواريخ والقذائف، أدى إلى تعطيل قطاعات كاملة من النشاط الاقتصادي في تلك المناطق، وخسائر مباشرة في الإنتاج.
ثانياً: استنزاف سوق العمل، فقد تسبب تجنيد نحو 300 ألف جندي احتياطي لفترات طويلة بانخفاض حاد في نسبة المشاركة في سوق العمل، وضياع عدد هائل من أيام التدريب والاستثمار البشري، في وقت لم تكن فيه أنظمة تدريب البدلاء قادرة على سد الفجوة.
ثالثاً: هجرة العقول والطبقة الوسطى، بدأت الطبقة الوسطى المتعلمة، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي، التفكير جدياً في الهجرة، وبالفعل غادرت عشرات الآلاف من العائلات، ما ينذر بخسارة طويلة الأمد لرأس المال البشري.
رابعاً: الأزمة المالية المتفاقمة، فقد حوّل عدد كبير من الإسرائيليين مدخراتهم إلى الخارج تحسباً للتضخم وانخفاض قيمة العملة، وتزامن ذلك مع تراجع التصنيف الائتماني لإسرائيل، وارتفاع علاوة المخاطر، وزيادة الضغوط على الشيكل.
خامساً: الوقوع في فخ الديون، إذ أظهرت بيانات الحكومة نفسها التي تتبَّعها بقش شراء أسلحة بعشرات المليارات من الدولارات، غالباً بالتقسيط، وأدى هذا الإنفاق الهائل إلى تدهور جودة الخدمات العامة والتعليم العالي، ودفع إسرائيل إلى الاقتراض لتسديد فوائد ديون قديمة، في مسار كلاسيكي نحو فخ الديون. ووفق التقديرات، من المتوقع أن يصل الدين العام إلى نحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025.
سادساً: تدهور السمعة والعزلة الدولية، وهو الضرر الأكثر استراتيجية، فقد تدهورت سمعة إسرائيل الدولية بشكل غير مسبوق، مع تصاعد حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. ووجدت كثير من الشركات الإسرائيلية نفسها في عزلة حقيقية، بعد أن بدأ شركاؤها التجاريون في الخارج يتجنبون التعامل معها.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت في نوفمبر الماضي مقابلات مع رجال أعمال إسرائيليين عبّروا عن شعورهم بالعزلة، مؤكدين أن شركاءهم التجاريين، حتى أولئك الذين تجمعهم بهم علاقات طويلة الأمد، يرفضون أي تواصل. وبعضهم روى أنه طُلب منه، حتى في دول تُعد صديقة لإسرائيل مثل ألمانيا، حذف جميع سجلات الاجتماعات وعدم الإفصاح عنها.
ركود تضخمي مقنّع
تحذّر تقارير اقتصادية إسرائيلية من دخول مرحلة ركود تضخمي، حيث يتزامن ارتفاع الأسعار مع تباطؤ النمو. تعامل البنك المركزي الإسرائيلي مع هذا الخطر عبر بيع كميات كبيرة من الدولار، ما خلق انطباعاً مؤقتاً بالسيطرة على الوضع، وأقنع المستثمرين الدوليين بقدرة إسرائيل على مواصلة الحرب.
غير أن اقتصاديين إسرائيليين يرون أن هذه السياسة ليست سوى مسكن مؤقت. ويتساءلون بسخرية: كيف خفضت وكالات التصنيف الائتماني تصنيف إسرائيل درجة واحدة فقط؟ ولماذا ما زالت تفترض أن الحكومة ستسدد ديونها؟ ويصفون هذا الموقف بأنه نوع من التواطؤ من الإعلام المالي الدولي، خشية اتهامه بمعاداة إسرائيل إذا نقل الصورة الكاملة.
وعلى مستوى الحياة اليومية، كانت الكلفة باهظة، فقد قدّرت صحيفة “ذا ماركر” الاقتصادية كلفة الحرب على كل أسرة إسرائيلية، عبر مقارنة معدل النمو المتوقع بالنمو الفعلي خلال العامين الماضيين، بنحو 111 ألف شيكل (ما يعادل 34 ألف دولار)، وهذا الرقم انعكس مباشرة على مستوى المعيشة، مع تجاوز نسبة الأسر التي تنفق أكثر من 40% من دخلها الشهري، وتغرق في ديون متزايدة لتغطية احتياجاتها الأساسية.
ويؤكد تقرير منظمة لاتيت أن عدداً متزايداً من الإسرائيليين، حتى أولئك غير المصنفين رسمياً ضمن فئة الفقراء، يعيشون أزمة معيشية حادة.
فقد ارتفعت نسبة غير القادرين على شراء ما يكفي من الغذاء بنحو 29% في عام 2025. ومعروف، وفق هذه التقارير، أن نسبة كبيرة من الأسر تعاني عجزاً مالياً منذ سنوات، وتعتمد على السحب على المكشوف والشراء بالتقسيط.
ويحذر البنك المركزي الإسرائيلي من أن تعافي الاقتصاد سيكون بطيئاً للغاية، إن حدث أصلاً، فاقتصاد يقوم على الحرب، والديون، والإنكار، قد يستمر في الحركة لفترة، لكنه يفتقر إلى أي أفق مستدام.
ومع تآكل الثقة الدولية، وهجرة العقول، واتساع الفجوة الاجتماعية، تبدو إسرائيل أمام مفترق طرق اقتصادي حاسم: إما الخروج من منطق “اقتصاد الزومبي” بإعادة بناء حقيقية، أو الاستمرار في مسار استنزافي قد يقود إلى انهيار أعمق، تتجاوز آثاره حدود الحرب نفسها.


